مقالات تحليلية

كيسنجر عراب الوفاق الأمريكي السوفيتي .. يعود إلى الواجهة

23-Jan-2023

عن طريق الفيديوكونفرنس، وبعد أن بلغ التاسعة والتسعين عاما، خاطب هنري كيسنجر عراب الوفاق السوفيتي الأمريكي في نهاية الستينات وبداية السبعينات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد بمدينة (دافوس) بسويسرا،  في الفترة من 16 إلى 20 يناير 2023.  الديبلوماسي المخضرم طالب بأن تصبح روسيا جزءاً من النظام الدولي بعد التوصل إلى سلام بعد نهاية الحرب الروسية الأوكرانية.

عمل كيسنجر وزيراً للخارجية الأمريكية مع كل من الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد خلال الفترة من 1973 إلى 1977، ثم مستشاراً للأمن القومي بين 1969 و1975، وذلك خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. كان الرجل صاحب مبادرة الوفاق بين كل من الرئيس نيكسون والرئيس السوفيتي ليونيد برزينيف بهدف تجنب الحرب النووية بين الدولتين، وبدء محادثات لتقليص الترسانة النووية، وأصبح الرئيس نيكسون أول رئيس أميركي يزور الاتحاد السوفيتي عام 1972 (عمون نت، تاريخ الدخول 21 يناير 2023). 

كيسنجر يحذر من تدمير روسيا

قال كيسنجر في قمة (دافوس) إن على الغرب أن يواصل الحوار مع روسيا خلال فترة الحرب الروسية الأوكرانية ، حتى لا تشعر بأن هناك حرباً ضد الدولة الروسية نفسها، مع استمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا إلى أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو قرب الوصول إلى تسوية، وحذر من تدمير روسيا لأنه سوف يؤدي إلى اضطرابات داخلية وتدخلات خارجية في دولة لديها مخزون يزيد على 15 ألف رأس نووي، ولها حدود مشتركة مع دول عديدة. كان كيسنجر في مايو الماضي قد طالب الأوكرانيين بالتنازل عن بعض الأراضي للروس، وهو تصريح تم انتقاده من قبل الأوكرانيين (سي إن بي سي، 17 يناير 2023).

توقع كيسنجر أن تتوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا عندما تعود خطوط القتال إلى نقطة البداية وتراجع الروس، لكن مع عدم التخلي عن الأراضي في منطقة (الدونباتس) التي كان يحتلها المتمردون قبل الحرب (موقع روسيا مهمة، 18 يناير 2023). 

جاء حديثه في سياق الجدل الذي يدور منذ أيام حول ضرورة تزويد أوكرانيا بدبابات (ليوبارد) الألمانية أو (ابرامز) الأمريكية التي يتوقع أن تحدث توازناً عسكرياً على الأرض في الحرب الدائرة بين كل من روسيا وأوكرانيا، لكن ألمانيا تتحفظ في فعل ذلك قبل أن توافق واشنطن على تزويد كييف بدبابات (إبرامز)، ويعتقد خبراء أن دخول مثل هذه الدبابات ربما يغير من موازين الحرب لصالح أوكرانيا (بي بي سي، 19 يناير 2023). 

 عراب الوفاق في العلاقات الدولية 

ينظر إلى كيسنجر على أنه رجل براغماتي في العلاقات الدولية، فقد شهدت فترة توليه المسؤولية في كل من وزارة الخارجية الأمريكية ومستشارية الأمن القومي تحسناً في العلاقات الأمريكية مع كل من الاتحاد السوفيتي والصين، فهو صاحب فكرة دبلوماسية تنس الطاولة التي تشير إلى تبادل لاعبي تنس الطاولة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية في أوائل سبعينات القرن الماضي، والتي بدأت خلال بطولة العالم لكرة الطاولة لعام 1971 في ناغويا، اليابان بعد لقاء بين لاعبين أمريكي وصيني. تم اعتبار الحدث حجر أساس في رجوع العلاقات الأمريكية الصينية ومهد الطريق لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى بكين في عام 1972. 

 عودة كيسنجر إلى الواجهة والاهتمام به تجيء في حقبة غاب فيها أصحاب الأفكار الجديدة في السياسة الخارجية مثل زبيغنيو بريجينسكي الذي عمل مستشاراً للأمن القومي خلال فترتي كل من الرئيسيين الديمقراطيين ليندون جونسون وجيمي كارتر بين 1966 إلى 1977، كما شهدت الفترة الماضية تراجعاً في السياسة الأمريكية في كل من أفغانستان والعراق وسوريا التي تراجعت فيها واشنطن لصالح روسيا.

يعتبر كل من كيسنجر وبريجينسكي من المجددين في السياسة الخارجية الأمريكية ولهما مؤلفات وإسهامات أكاديمية خاصة عبر مراكز صناعة الأفكار في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لا يتوفر للكثير من القادة السياسيين الآن الذين في واجهة السياسة الخارجية الأمريكية، وكان بريجينسكي قد حذر إدارة الرئيس بوش من غزو العراق لما سوف تسببه من خسارة اقتصادية كبيرة. 

المساهمات الفكرية المتعددة في السياسة والديبلوماسية والعلاقات الدولية وضعت كيسنجر مع مفكرين استراتيجيين في السياسة الدولية، وهو من الذين يملكون عشرات الأفكار والمبادرات حول مسائل السياسة الخارجية، وكان يريد استخدم العلاقات مع الصين في مواجهة الاتحاد السوفيتي، لكن تلك الفكرة فشلت بعد فضيحة وترجيت واستقالة الرئيس نيكسون عام 1974 (رضوان السيد، الشرق الأوسط 20 يناير 2023). 

من أفكار كيسنجر تحديد نهاية خطوط القتال ووقف إطلاق النار بين الجيش الإسرائيلي والجيش المصري في حرب عام 1973  ، بعد الاتفاق مع الاتحاد السوفيتي عندما تدخلت واشنطن لوقف الحرب وبدء مفاوضات الكيلو 101 قرب مدينة السويس، وهو صاحب فكرة الوسيط المتنقل قي الشرق الأوسط وإنهاء التدخل الأمريكي في حرب فيتنام في مفاوضات باريس عام 1972، وهو من أكثر وزراء الخارجية الأمريكية تأثيراً في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية (موقع المعرفة، 21 يناير 2023). 

وفي مقال نشرته مجلة (ذا سبيكتاتور) كتب كيسنجر أن عملية السلام في أوكرانيا تتطلب ضمها إلى حلف الأطلسي وأن وقت الحياد قد مضى، ولكن من الضروري أن تبقى شبه جزيرة القرم محل مفاوضات وإجراء استفتاء حولها (سبيكتاتور، 17 ديسمبر 2022). 

مناقشة وتحليل 

ينظر إلى أحاديث كيسنجر حول أوكرانيا مؤشراً لإمكانية حدوث مزيد من الانسجام بين الحزبيين الجمهوري والديمقراطي حول أوكرانيا. وكانت وزارة الدفاع الأمريكية قد وجهت بالإبقاء على الاتصالات مفتوحة مع موسكو خاصة حول قضايا الأمن الدولي, وهذه سياسة تتلاءم مع أفكار كيسنجر.

 ووفقاً للمعطيات الحالية في الحرب الروسية الأوكرانية فإن واشنطن ما زالت تواصل دعمها العسكري لأوكرانيا بمزيد من الأسلحة المتطورة مثل صواريخ باتريوت الدفاعية، وأخيراً ربما تؤدي الدبابات الأمريكية الألمانية المتقدمة، إذا ما وصلت إلى يد الجيش الأوكراني إلى تقدمه وانسحاب روسيا من الكثير من المواقع التي احتلتها، وهو ما يمكن أن يفتح الطريق إلى بداية مفاوضات أكثر جدية من جديد، لكن دون تدمير روسيا كما قال كيسنجر أو تدخل حلف الناتو بصورة مباشرة. 

كما تواجه واشنطن مصاعب في علاقاتها الخارجية الأوروبية مع كل من ألمانيا وفرنسا بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، وخلافات مع إسرائيل حول سياستها تجاه إيران، وينظر إلى عملية الانسحاب التي حدثت مؤخراً في أفغانستان كدليل على عدم وجود رؤية واضحة من الناحيتين السياسية والعسكرية التي تركت أفغانستان في يد طالبان من جديد بعد إهدار بلايين الدولارات في الحرب هناك.

 



248