تكمن أهمية نجاح المرشح الجمهوري، دونالد ترامب في كونه يأتي تتويجاً لحملات انتخابية شهدت اضطرابات غير مسبوقة، حيث نجا من محاولتي اغتيال بالإضافة إلى أنه كان يواجه خلال تلك المرحلة مشكلات قانونية وقضائية هددت حياته السياسية بما في ذلك اتهامه بالتدخل في الانتخابات الفيدرالية، وإدانته في محكمة الولاية بـ 34 تهمة جنائية.
أوراق ترامب الرابحة
من أبرز الأوراق التي استخدمها ترامب في حملته الانتخابية، التركيز على الوضع الاقتصادي ومسألة التضخم في البلاد، إذ يصنف الناخبون تكلفة المعيشة في أمريكا كواحدة من أهم اهتماماتهم، ولا شك في كونها واحدة من أكثر المشكلات إلحاحاً وأهمية ووضوحاً في حياتهم.
ووفقاً لاستطلاع الرأي
عند الخروج من مراكز الاقتراع، صنف 35% من الناخبين على المستوى الوطني "حالة
الديمقراطية" باعتبارها العامل الأكثر أهمية في تصويتهم، وصوت 81% من هؤلاء
الأشخاص لصالح هاريس و17% فقط لصالح ترامب، لكن الاقتصاد كان ثاني أكثر القضايا
تأثيراً. ومن بين هؤلاء الناخبين، تقدم ترامب بنسبة 79% مقابل 20%.
وطوال حملته الانتخابية التي استمرت
عامين، واجه ترامب الرئيس جو بايدن ثم كامالا هاريس بشأن التضخم والاقتصاد. وقد
لاقت هذه الرسالة صدى لدى الناخبين، واهتم ترامب بقضية الهجرة الرئيسية كما فعل
منذ ما يقرب من عقد من الزمان، وتعهد في كل حدث انتخابي تقريباً بأنه سينفذ عمليات
ترحيل جماعية إذا أعيد انتخابه. وأظهرت استطلاعات الرأي أن الناخبين يعتقدون أيضاً
أن ترامب سيبذل جهداً أفضل في مواجهة الهجرة غير الشرعية على الحدود الجنوبية.
نجاح في نهاية المطاف
رغم الاستعراض والشتائم والسباب، نجح
ترامب في نهاية المطاف في كسب أصوات الناخبين من خلال وعوده الكبرى بتحسين
الاقتصاد، ومنع تدفق المهاجرين على الحدود الجنوبية، ودعوته المثيرة للجدل
"لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". وبشكل عام، قال نحو نصف ناخبي ترامب إن
التضخم كان القضية الكبرى التي تؤثر في قراراتهم الانتخابية. وقال نحو نصفهم الشيء
نفسه عن الوضع على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، لقد تجاهل حقيقة مفادها
أن الاقتصاد قوي وفقاً للعديد من المقاييس التقليدية -التضخم تحت السيطرة إلى حد
كبير والأجور في ارتفاع- في حين انخفضت أعداد المعابر الحدودية بشكل كبير. لقد
تحدث متجاوزاً الحقائق تماماً ومن خلال التكرار المتواصل نجح في إقناع الناخبين،
كما باعهم بوعد القيام بأكبر عملية ترحيل جماعي في تاريخ الولايات المتحدة، رغم
أنه لم يوضح كيف ستتم مثل هذه العملية. كما هدد بفرض تعريفات جمركية ضخمة على
المنتجات الرئيسية من الصين وغيرها من خصوم الولايات المتحدة (أسوشيتيدبرس - 6
نوفمبر).
كما تمكن ترامب من استغلال قضية
الاستقطاب العنصري، وتشير تقديرات استطلاعات الرأي الأولية إلى أن دعم
الديمقراطيين انخفض بين الناخبين غير البيض وارتفع بين الناخبين البيض (خاصة
الحاصلين على تعليم جامعي). ويشير استطلاع الرأي إلى أن ترامب فاز بأصوات الناخبين
البيض بنسبة 12 نقطة مئوية، 55% مقابل 43% لهاريس. وبالمقارنة باستطلاع الرأي لعام
2020، فإن هذا يمثل تحسناً بمقدار 5 نقاط لصالح الديمقراطيين.
الورقة الرابحة الإضافية التي استفاد
منها ترامب هي الحصول على تأييد المناطق الريفية، وقد ضمن الرئيس السابق فوزه من
خلال الاستفادة من الدعم القوي في المناطق الريفية في أمريكا، كما فعل في فوزه
الأول، وحصل ترامب على دعم قوي بين الناخبين من الطبقة العاملة. وأظهر استطلاع AP VoteCast، الذي شمل أكثر من 120
ألف ناخب مسجل على الصعيد الوطني، أنه فاز بنسبة 55٪ من الناخبين الذين لا يحملون
شهادة جامعية، وكان هذا ارتفاعاً من 51٪ في عام 2020 في سباقه ضد بايدن.
نقاط ضعف هاريس
إن من أبرز أسباب خسارة هاريس في الانتخابات،
أنها ورثت حملة انتخابية ضعيفة من جو بايدن، نظراً إلى عدم شعبية الرئيس وبعد أن
استبعد الديمقراطيون بايدن عززت بسرعة حزبها المحتضر، وحشدت النساء، وأشعلت حماسة
صناع المحتوى على تيك توك وإنستغرام، وجمعت مبالغ مذهلة من المانحين، لكنها رفضت
الانفصال بشكل كامل عن السنوات الأربع الماضية، كما ترددت في تسليط الضوء على أكبر
نقطة ضعف لدى بايدن (إدارته للاقتصاد) ولم تحدد أي طريقة قد تختلف بها رئاستها عن
فترة ولايته بخلاف تعيين جمهوري في حكومتها.
رغم محاولة حملة هاريس الصعود إلا
أنها لم تتمكن من التخلص أيضاً من تداعيات وجود هاريس كنائبة للرئيس الذي هبطت
شعبيته وكان حكم الجمهور على أدائه في قضيتين أساسيتين (التضخم والهجرة) سلبياً
للغاية، وقد ورثت هاريس هذا الاستياء عندما تخلى جو بايدن عن سعيه للحصول على
ولاية ثانية، كما أن تأخر بايدن في اتخاذ قرار الانسحاب من السباق الانتخابي انعكس
سلباً على هاريس حيث لم تتمكن من أخذ وقت كاف في معركة الانتخابات التمهيدية لتقديم
نفسها للناخبين ومحاولة طرح الحلو ل التي يريد الناخب الأمريكي سماعها.
سعت هاريس من خلال حملتها إلى تحويل
السباق الانتخابي إلى استفتاء على ترامب من خلال التركيز على إظهار مساوئه
وسلبياته، وشنت هجوماً إعلامياً كبيراً عليه، لكن تبين أن ذلك لا يهم الناخب الأمريكي
الذي يعرف مَن هو ترامب وما هي الاتهامات التي توجه له، وذلك بقدر ما يهمه أن تقدم
هاريس حلولاً للأزمات التي تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية. وقال فرانك لونتز،
خبير استطلاعات الرأي الجمهوري المخضرم لشبكة "بي بي سي": "لقد
خسرت كامالا هاريس هذه الانتخابات عندما تحولت للتركيز بشكل حصري تقريباً على
مهاجمة دونالد ترامب"، وأضاف: "إلقاء الضوء على ترامب أكثر من أفكار
هاريس نفسها كان بمثابة فشل ذريع لحملتها الانتخابية".
لقد اختارت هاريس عدم تقديم تفسير
موسع، أو حتى أي مبرر على الإطلاق، للفجوة الهائلة بين العديد من مواقفها السياسية
السابقة بشأن كل شيء، بدءاً من التكسير الهيدروليكي (قضية ضخمة في بنسلفانيا) وفرض
قوانين السيارات النظيفة (وهي قضية كبيرة في ميشيغان) إلى منح الجنسية للمهاجرين
غير الشرعيين الذين تم جلبهم إلى الولايات المتحدة وهم أطفال (بولتيكو - 6
نوفمبر).
إستراتيجيات مؤثرة
كان اعتماد حملة ترامب على الخطابات
الشعبوية مفيداً إلى حد كبير، حيث أثرت قضية محاولة اغتياله في الرأي العام الأمريكي،
كما كان يتعمد طرح أسئلة بسيطة تراعي متطلبات أغلبية الأشخاص الريفيين وغير
المتعلمين الذين لا يهتمون بالسياسة كثيراً، وبدلاً من ذلك كان يطرح في كل تجمع
انتخابي هذا السؤال: "هل أنت أفضل حالاً الآن مقارنة بما كنت عليه قبل
عامين؟، كما كان شعار "أمريكا أولاً" أحد شعارات ترامب الأخرى التي بدت
وكأنها تلامس مشاعر الناخبين، ودائماً ما كانت تنتقد بعض الأوساط الأمريكية إنقاق
الأموال الكبيرة على دعم أوكرانيا مثلاً مطالبين بإنفاق هذه الأموال في الداخل.
نجح ترامب في بناء قاعدة دعم كبيرة في
إنديانا وكنتاكي وجورجيا وكارولينا الشمالية، ففي المقاطعات الريفية في مختلف
أنحاء ولاية بنسلفانيا، على سبيل المثال، كان الاتجاه العام مع فرز الأصوات هو أن
ترامب تمكن من زيادة نسبة المشاركة وزيادة هامش دعمه في معقل الحزب الجمهوري (فوكس
ميديا - 6 نوفمبر).
ركزت إستراتيجية حملة ترامب
الانتخابية على محاولة البناء على القوة المتنامية التي اكتسبها الجمهوريون بين
الناخبين من الطبقة العاملة البيضاء لإنشاء تحالف متعدد الأعراق من الطبقة العاملة،
كما سعى لكسب أصوات الشباب حيث أمضى ترامب الكثير من الوقت في البث الصوتي، مثل
برنامج جو روجان، واعتمد على شخصيات مشهورة كالملياردير إيلون ماسك، بالإضافة إلى
تلقيه الدعم من شخصيات فنية.
لقد أدت الخيارات التكتيكية التي
اتخذتها هاريس إلى تفاقم مشكلاتها. أولاً، رفضت الفرص المتاحة لخلق صورة سياسية
أكثر وضوحاً. ورغم أن عدم شعبية بايدن أثقل كاهل حملتها، فإنها رفضت الانفصال عنه
بأي شكل من الأشكال التي يمكن أن تخترق الناخبين الذين يمكن إقناعهم. وبالمثل، فإن
رفضها شرح سبب تخليها عن المواقف التقدمية بشأن الجريمة والهجرة والرعاية الصحية
وتغير المناخ، طمس تصور الجمهور لها وفتح الباب أمام اتهام حملة ترامب لها بأنها
متطرفة خفية. وبالعودة إلى الحملة الناجحة لبيل كلينتون في عام 1992، كان بعض
الديمقراطيين يأملون أن تحظى هاريس بلحظة "الأخت سولجا" حيث تنفصل عن
بعض أرثوذكسية الحزب من أجل إظهار استقلالها، لكن هذا لم يحدث. وثانياً، كان قرار
هاريس بتجنب المقابلات الإعلامية خلال النصف الأول من حملتها سبباً في خلق انطباع
بأنها كانت تعتمد على تصريحات مكتوبة مسبقاً وتخشى التفكير بسرعة. والواقع أن
الإجابة على الأسئلة الصعبة من شأنها أن تعزز سمعة المرشح فيما يتصل بالكفاءة
والشخصية، وهي الميزة الإيجابية المحتملة التي بدا أن هاريس وحملتها لم يدركاها
فترة طويلة للغاية (مؤسسة بروكينجز الأمريكية - 6 نوفمبر).