انشغل العالمُ خلال الأسابيع الماضية بالتصعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، على خلفية الحديث عن اقتراب إيران من الحصول على قنبلة نووية، فبعد أيام من التصريحات التصعيدية والمتزامنة مع تدريبات ومناورات عسكرية وتسريب خطط للحرب، بدأت الأمورُ تميل إلى الهدوء خلال الساعات الماضية بعد زيارة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي طهرانَ، وما تلاها من ملامح تشير إلى مرحلة جديدة من الهدوء التي من الممكن أن تمهد للعودة إلى التفاوض حول الملف النووي من جهة والتفاوض السري بين واشنطن وطهران من جهة أخرى، وكل هذا مرتبط نوعاً ما بمسار الحرب الروسية – الأوكرانية في الأسابيع والأشهر المقبلة.
طهران تقترب من الحصول على سلاح نووي
بدأ التوتر على خلفية نقل وكالة "بلومبيرغ" في منتصف فبراير الماضي عن مصدرين دبلوماسيين أن مفتشين تابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية اكتشفوا يورانيوم مخصباً بنسبة 84 في المئة. وبينما حد الاتفاق النووي الإيراني من درجة النقاء التي يمكن لطهران أن تخصب اليورانيوم بها إلى 3.67 في المئة بحلول أبريل 2021، كانت تخصب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة، وأخيراً ترتقي الشكوك إلى قيامها بالتخصيب بنسبة 84 في المئة وهي أقل بقليل من 90 في المئة المطلوبة للحصول على سلاح نووي، (إندبندنت عربية – 24 فبراير الماضي).
ونقلت وكالة أسوشيتد برس بتاريخ 23 فبراير الماضي اعتراف إيران، بأنها خصبت اليورانيوم حتى درجة نقاء 84 في المئة لأول مرة، وهو ما من شأنه أن يجعلها أقرب من أي وقت مضى إلى المواد المستخدمة في صنع الأسلحة النووية، وجاء الاعتراف الإيراني، حسب أسوشيتد برس، من قبل موقع إخباري مرتبط بأعلى المناصب الإيرانية ليجدد الضغط على الغرب للتصدي لبرنامج طهران النووي، الذي تم احتواؤه بموجب اتفاق عام 2015.
وقال وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون السياسات، كولن كال، إن إيران يمكن أن تنتج الآن موادَّ انشطاريةً لصنع قنبلة نووية واحدة في حوالي 12 يوماً، وتعتبر تصريحات كال، التي أدلى بها خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأمريكي، "الأكثر لفتاً للنظر" بشأن البرنامج النووي الإيراني، (سي إن إن- 1 مارس).
ومن الناحية العلمية، فإن معدل تخصيب اليورانيوم السلمي يكون أقل من 15 إلى 20 في المئة، وأي تخصيب يزيد عن هذه النسبة يدخل في إطار التصنيع الذي يمكن أن يستخدم عسكرياً. التخصيب هو عملية تكبير النظير للعنصر الكيميائي اليورانيوم، وكل ما ارتفعت هذه النسبة أصبح هناك انشطارٌ أكبر للعنصر، ويصبح هناك انفجارٌ أكبر. الفرق بين الإنتاج العسكري والعادي، هو أن عملية الانشطار تحصل بطريقة محددة، أي يمكن تحديد كمية الانشطار الذي يحصل في العنصر من خلال صفائح غرافيت، ويتم التحكم في قذف النيوترون الذي يضرب اليورانيوم فيشطره وتنتج عنه عملياتٌ متتابعة كثيرة. بعد الوصول إلى نسبة 84 في المئة يطلب الوصول إلى نسبة القنبلة زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، (الأستاذ المحاضر في الهندسة الكيميائية، إيلي الفغالي- الحرة 23 فبراير).
إيران تستنجد بالنووي
تُعبر هذه المرحلةُ عن أهداف إيران من التمسك بتطوير برنامجها النووي خلال السنوات الماضية، إذ تبين أن طهران لا تريد أن تحصل على سلاح نووي بشكل فعلي بقدر ما تريد أن تستخدم هذا الخيارَ كورقة للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الدولية والدول المجاورة في حال تصاعد الضغط ضدها.
وهذه الاستراتيجية الإيرانية توضحت خلال هذه الفترة حيث لجأت إيران إلى خيار الاقتراب من الحصول على سلاح نووي بعد شعورها بالخطر نتيجة عدة معطيات.
ومن هذه المعطيات، وصول حكومة يمينية متطرفة إلى الحكم في إسرائيل وضعت الحرب على إيران ضمن أجنداتها، وفي هذا السياق أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في بداية أول جلسة أسبوعية للحكومة الإسرائيلية الجديدة، على ذلك بالقول: "سنبذل قصارى جهدنا لمنع العودة إلى هذا الاتفاق السيئ (الاتفاق النووي)، الذي يقود إلى (إيران نووية) برعاية دولية، كما سنتخذ إجراءات قوية لمنع إيران من ترسيخ وجودها العسكري في سوريا وأماكن أخرى ولن ننتظر"، (سي إن إن – 3 يناير الماضي).
وفي هذا السياق، وضع خطابُ مراسم تسليم الوزارة الذي ألقاه وزير الأمن الإسرائيلي السابق بيني غانتس أمام وزير الأمن الجديد يوآف غلانت تحدياتٍ جمةً، في مركزها الملفُ النووي الإيراني وضرورة مواجهته، مما جعله الموضوعَ الأبرز على أجندة الأمنيين والعسكريين الإسرائيليين، وسارع مسؤولون في المؤسسة العسكرية إلى المطالبة بزيادة ضخمة في الموازنة العسكرية تصل قيمتها إلى 10 مليارات شيكل (2.84 مليار دولار)، وهي موازنة استثنائية تشكل 12 في المئة من الموازنة الحالية، ويطالب الجيش بالمصادقة عليها قبل الربيع المقبل، ونقلت قناة "كان" الإخبارية عن مسؤولين عسكريين أن "الجيش يحتاج إلى موازنة كبيرة كهذه لاستخدامها في مجالات عدة داخل المؤسسة العسكرية، بما في ذلك الاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران ومنع امتلاكها قنبلة نووية"، (إندبندنت عربية – 2 يناير الماضي).
وتزامن ذلك مع انطلاق مظاهرات شعبية في المدن الإيرانية ضد النظام الحاكم وأخذت هذه المظاهرات مع الوقت انتشاراً واسعاً وتفاعلاً من شخصيات مشهورة وذات تأثير في الداخل الإيراني، بالإضافة إلى التفاعل من قبل الدول الغربية التي أبدت تأييدها لهذه التظاهرات وزادت فرضَ العقوبات الاقتصادية على الكيانات والمسؤولين الإيرانيين، ما تسبب بخشية إيرانية من أن يتطور إلى دعم سياسي ومادي وأن تقوم الدول الغربية وواشنطن تحديداً بتنظيم المعارضة الإيرانية.
وما زاد القلق الإيراني من هذه التظاهرات، هو اتجاه واشنطن والغرب لاستغلال هذه التظاهرات بعد أن ظهر النظام الإيراني ضعيفاً وهشاً حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان الرئيس جو بايدن في 4 نوفمبر 2022 موت الاتفاق النووي، كما أن الإعلام الأمريكي والغربي بدأ بالترويج لحرب ضد إيران وفي 1 مارس، نشرت صحيفة "The intercept" الأمريكية، تقريراً يتحدث عن خطة طوارئ للحرب وضعها البنتاغون الأمريكي من أجل مواجهة إيران. كما راقبت إيرانُ إطلاقَ الولايات المتحدة الأمريكية عدةَ مناورات وتدريبات عسكرية مع دول المنطقة، أبرزها كان في يناير 2023، حيث أجرت واشنطن وتل أبيب مناورة عسكرية كبيرة.
وبالتزامن مع ذلك، تزايدت الأخطار العسكرية ضد إيران ومصالحها في المنطقة، حيث استهدفت طائرات مسيرة يرجح أنها إسرائيلية بتاريخ 28 يناير الماضي محافظة أصفهان الإيرانية، كما تزايد الضغط العسكري الإسرائيلي على الميليشيات الإيرانية في سوريا، كما زادت واشنطن ضغطها على الاقتصاد الإيراني عبر القيام بإجراءات في العراق تمنع تهريب الدولار إلى إيران ما تسبب بانهيار العملة الإيرانية.
الأهداف الأمريكية من التلويح بالحرب
على الرغم من التصريحات التصعيدية وتسريب الخطط العسكرية والمناورات التي عملت من خلالها الولايات المتحدة وإسرائيل على إيصال الرسائل التحذيرية لإيران، إلا أن هناك معطياتٍ عديدةً كانت تشير إلى أن الأمور لن تصل إلى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة. ومن هذه المعطيات تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين التي تركت الباب مفتوحاً أمام التفاوض أو التهدئة على الأقل في المرحلة الحالية.
في هذا السياق، وعلى الرغم من أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي أي" وليام بيرنز قال خلال مقابلة، إن برنامج إيران النووي يتقدم "بوتيرة مقلقة" بعد تقارير عن رفع طهران مستويات تخصيب اليورانيوم، لكنه أضاف أن الولايات المتحدة لا تعتقد أن المرشد الأعلى علي خامنئي قرر "استئناف برنامج التسلح الذي نقدر أنه علق أو أوقف نهاية 2003"، وأوضح بيرنز أن إيران "ما زالت بعيدة جداً من حيث القدرة على تطوير سلاح نووي"، (سي إن إن – 27 فبراير الماضي).
ومن الأسباب التي قللت فرص الحرب، أن أي حرب من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على إيران ستجعل طهران في حالة من القلق بأن هذه الحرب ستنهي وجود النظام الإيراني، لذلك سيستخدم الأخير كافة أوراقه وأدواته، فمثلاً من الممكن أن تَستهدف القواتُ الإيرانية الموجودة بكثرة في سوريا والعراق، القواعدَ الأمريكية في البلدين بالإضافة إلى إمكانية استهداف الأراضي الإسرائيلية من الجنوب السوري، وهذا ما لا يشجع واشنطن وتل أبيب على القيام بعملية عسكرية كبيرة ضد طهران، بالإضافة إلى الانشغال الأمريكي والغربي بالصراع مع روسيا في أوكرانيا. وإذا ما كانت فرضيةُ الحرب ضعيفةً، ما الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لخلق هذه الأجواء وإطلاق التهديدات ضد إيران.
من هنا يتبين أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في البداية سعتا لتشجيع المتظاهرين الإيرانيين والمعارضة على المزيد من التحرك من خلال إظهار أن هناك تدخلاً عسكرياً يُحضر له، دون تقديم دعم مباشر لهم، إلا أن ذلك لم يحقق شيئاً، وخلال الأسابيع الماضية خفت حدة المظاهرات الشعبية كما غابت التصريحات الغربية والأمريكية الداعمة لها.
كما أن هناك انزعاجاً أمريكياً – غربياً من دعم إيراني للقوات الروسية في أوكرانيا عبر تقديم طائرات مسيرة إيرانية وذلك بحسب ما تقوله واشنطن والغرب، ومن المتوقع إلى حد كبير أن واشنطن تريد من إيران أن تقطع هذا الدعم عن روسيا. قبل هذا التصعيد، زادت إيران عبر ميليشياتها في العراق من الضغط على حكومة محمد شياع السوداني لفتح ملف إخراج القوات الأمريكية من البلاد.
العودة إلى التهدئة
مع وصول التوتر إلى مرحلة ما قبل الانفجار والذهاب إلى المواجهة المباشرة، عادت الأمور إلى طريق التهدئة التي من الممكن أن تأسس لتفاوض بين طهران والقوى الغربية عبر إحياء مفاوضات الاتفاق النووي، بالإضافة إلى إمكانية إطلاق مسار جديد للتفاوض بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
وبدأ المديرُ العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي في 3 مارس زيارة إلى إيران، قال دبلوماسيون إنها تهدف إلى دفع طهران للتعاون مع تحقيق حول آثار لليورانيوم عثر عليها في مواقع غير معلنة. وذكرت وكالة "إيرنا" للأنباء أن غروسي أجرى محادثات مع رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي بعد وصوله طهران في زيارة تستغرق يومين، وقالت وكالة الأنباء، -دون الخوض في التفاصيل- إن "جدول أعمال هذه الاجتماعات يشمل مسائل الضمانات المتبقية، فضلاً عن خلافات فنية وقانونية بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية".
وخلال وجوده في طهران، قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، بتاريخ 4 مارس إن "ثمة آمالاً عظيمة بخصوص عمل الوكالة مع إيران"، وإن المحادثات مع المسؤولين ومن بينهم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تجري "في أجواء عمل وصراحة وتعاون".
وقالت الوكالة وإيران في بيان مشترك إن طهران مستعدة لتقديم مزيد من المعلومات والمساعدة في تحقيق الوكالة المتعثر منذ مدة طويلة بشأن جزيئات اليورانيوم التي عُثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلَنة في إيران، وجاء في البيان المشترك أن إيران "عبرت عن استعدادها.. لتقديم مزيد من المعلومات والتعامل مع قضايا الضمانات العالقة"، (ميدل إيست أونلاين – 4 مارس).
وعقب عودته من طهران وفي نفس اليوم، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن غروسي قوله: «توصلنا إلى اتفاق لإعادة تشغيل الكاميرات وأنظمة المراقبة»، مضيفاً أنه تم الاتفاق على زيادة عمليات تفتيش منشأة فوردو بنسبة 50 في المائة.
نتائج وخلاصات
من خلال ما سبق يتبين أن كلاً من إيران والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين يستخدمون الملف النووي الإيراني وسيلةً للضغط المتبادل، حيث تستغله إيران كأداة ردع وابتزاز للقوى الدولية والإقليمية، كما أن واشنطن والغرب يستغلونه للضغط على طهران في حال تزايد العداء بين الطرفين في جبهات صراع متعددة في العالم وآخرها أوكرانيا.
التطورات والمؤشرات عقب زيارة رئيس وكالة الطاقة النووية رافايل غروسي إلى طهران تشير إلى أن هناك مرحلة هدوء نوعاً ما لن تُنهيَ أجواءَ العداء والتوتر بشكل كامل إلا أنها ستؤدي لتخفيفها وإبعادها عن أجواء الحرب المباشرة والصدام الكبير، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى الحديث عن العودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني لكن ليس بشكل فوري ومباشر وسريع، حيث يرتبط ذلك بأمرين:
الأمر الأول: مسار الحرب الروسية – الأوكرانية المفتوحة على احتمالين؛ ما بين التصعيد الكبير والحرب خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، وبين إمكانية التهدئة والتفاوض وفق ما تطرحه الصين وقوى أخرى، فنتائج هذه الحرب ستنعكس بالتأكيد على الشرق الأوسط سواء باللجوء إلى التصعيد أو التهدئة والتفاوض.
الأمر الثاني: هو حصول تقدم في مسار التفاوض الأمريكي – الإيراني وذلك بواسطة يسعى إليها العراق.
وفي هذا السياق، وصل وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان إلى بغداد في زيارة تأتي إثرَ عودة الوفد العراقي برئاسة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية فؤاد حسين، لإجراء مباحثات قالت مصادر سياسية إنها تتعلق بوساطة طرحها الوزير العراقي على المسؤولين الأمريكيين، (الحرة – 21 فبراير 2023).
وأعلن فؤاد حسين، وزير الخارجية العراقي، أن بلاده تقوم بدورٍ نشط لاستئناف المباحثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، والتي تهدف إلى إحياء الاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن عام 2018، في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، هذا الدور رحّبت به وزارة الخارجية الإيرانية، وأعلنت على لسان المُتحدِّث باسمها أنها ترحّب بجهود العراق في هذا المجال، وأنه يسعدها تسخير علاقات بغداد مع الولايات المتحدة لاستئناف العمل في تفعيل الاتفاق النووي بين البلدين. وفي حواره مع موقع "المونيتور"، قال حسين: "ليس سراً أنني على اتصال بمسؤولين إيرانيين وأمريكيين.. الجانبان يثقان بنا، وهذا أمر جيد"، مشيراً إلى أن مصلحة العراق تقتضي تقليل التوتر بين واشنطن وطهران، (الحرة – 24 فبراير).