مقالات تحليلية

دلالات ومآلات صعود اليسار وسقوط اليمين في البرازيل

07-Dec-2022

شكل رجوع الرئيس السابق لولا داسيلفا إلى سدة الحكم في البرازيل، صدمة لمنافسيه وأعدائه، حيث عملوا على إدانته ومنعه من ممارسة السياسة باتهامه بالفساد، بالرغم من نجاحه الباهر في فترة حكمه. وتعتبر عودة اليسار بعد حكم اليمين، أملا جديدا للبرازيليين في تمكين "لولا" من إتمام مشروعه السياسي والمجتمعي، لكن يتم ذلك في سياق جديد يتميز بانقسام المجتمع البرازيلي ونخبه بين يسار ويمين، ورفض أنصار الرئيس اليميني الخاسر، التسليم بالنتائج النهائية وفوز لولا دا سيلفا؛ وخصوصا أن الفارق بين الفائز والخاسر ضئيل جدا.

لولا أكد في خطابه بعد إعلان النتائج، على وحدة البرازيل، حيث قال بأن بلده "يحتاج إلى السلام والوحدة" وأنه "ليس من مصلحة أحد أن يعيش في أمة مقسمة في حالة حرب دائمة" (موقع الجزيرة، 3-10-2022). واعتبرت المحكمة الانتخابية العليا "TSE" الانتخابات جرت "بطريقة رياضية، حيث حصل لولا على 50,9% من الأصوات المصدق عليها مقابل 49,2% لبولسونارو". (موقع فرانس 24، 30-10-2021).

وبالرغم من عدم اتصال بولسونارو "بلولا دا سيلفا" بعد إعلان النتائج، فإن أحد أهم حلفاء الرئيس السابق المنهزم، وهو القاضي "سيرجيو مورو"، قد كتب على صفحته في تويتر "هذه هي الديمقراطية دعونا نعمل من أجل اتحاد أولئك الذين يريدون خير البلاد". وأضاف قائلا "سأكون في المعارضة في عام 2023 احتراما لإرادة بلادنا"؛ وهذا القاضي الفيدرالي هو الذي أصدر الحكم بتهمة الفساد ضد "لولا" وأرسله إلى السجن سنة 2018، وتقلد منصب وزير العدل إبان حكم بولسونارو منذ عام 2019 حتى 2020. (موقع فرانس 24، 30-10-22).

وتلقى "لولا"، التهاني من عدة رؤساء من العالم، حيث وصف "بايدن" الانتخابات البرازيلية، "بالحرة والنزيهة والموثوق بها" وأعرب عن رغبته في العمل معاً وإطلاق تعاون مستمر بين البلدين. وقال الرئيس الفرنسي ماكرون؛ بأن انتخاب "لولا" رئيسا، "يفتح صفحة جديدة في تاريخ "البرازيل"، وأضاف في تغريدة له، "معاً سنوحد جهودنا لمواجهة التحديات الكثيرة المشتركة وتجديد أواصر الصداقة بين بلدينا". (موقع فرانس 24، 30-10-22).

اعتبرت ألمانيا فوز لولا فوزا للديموقراطية والمناخ؛ حيث بعث الرئيس الألماني برسالة تهنئة "للولا" وقال فيها "سواء كانت أزمات اقتصادية أو تشكيل امدادات الطاقة لدينا أو الطاقة أو التحول إلى اقتصاد مستدام، ألمانيا على استعداد لملء الشراكة الإستراتيجية بين بلدينا بالحياة لصالح مجتمعنا ومستقبل كوكبنا"، كما أكد المستشار الألماني على رغبة بلده في "التعاون الوثيق" مع الرئيس البرازيلي "لولا"، وخصوصا في مجال التجارة وحماية المناخ، وقالت وزيرة الخارجية الألمانية "انالينا بيربوك" وهي منتمية إلى حزب الخضر، بأن الفائز الأكبر بعد "لولا"، "هو الديمقراطية البرازيلية لأن الانتخابات كانت شفافة ونزيهة وهذا مهم في هذه الأوقات على وجه الخصوص من أجل ثقتنا بالديمقراطية وسيادة القانون" كما أضافت أن هذه الانتخابات ستعزز الأمل في أن "الإزالة غير المنضبطة للغابات المطيرة في البرازيل ستنتهي قريبا وأن البرازيل ستصبح مرة أخرى قوة دافعة في كفاحنا المشترك ضد أزمة المناخ". (موقع قناة D.W، 31-10-2022).

ولاحظ الخبراء اهتمام الاتحاد الأوروبي بفوز "لولا"، لان هناك طموح لمنافسة الصين وروسيا في أمريكا الجنوبية، وهكذا فإن رئيسة المفوضية الأوروبية، "اورسولا فون دير لاين"، أعلنت الرغبة في العمل المشترك حيث، قالت في تغريدة لها "أتطلع إلى العمل معكم لمواجهة التحديات العملية الملحة، من الأمن الغذائي إلى التجارة والمناخ وغيرها.. "، (الميادين، 1 تشرين الثاني 2020). وأكدت المجلة الأمريكية "بوليتكو"، على كون بروكسيل لديها طموحات كبيرة في أمريكا اللاتينية وتحتاج إلى تنويع التدفقات التجارية الخاصة بها بعيدا عن روسيا وبدرجة أقل الصين". (الميادين، نفسه).

وبعد تدهور العلاقات الصينية مع البرازيل في عهد "بولسونارو"، صرح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجبان، مباشرة بعد فوز "لولا"، أن الصين "تريد رفع الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع البرازيل إلى مستوى جديد" (الميادين نفسه). كما أعربت موسكو، عن أملها في تعزيز سياسة التعاون مع البرازيل، وقال الباحث السياسي الروسي دميتري غرانوفسكي، "في الدولة الأمريكية اللاتينية الرئيسة، فاز الرئيس اليساري الميال إلى روسيا بدرجة كبيرة، والذي بشكل عام، لا يخفي تعاطفه مع روسيا ومعاداة النظام الأوكراني الحالي. تكفي قراءة أقواله. يقف لولا عند جذور بريكس (فهو أحد مؤسسي المجموعة). تميل دول بريكس اليوم إلى أن تصبح بديلا عن الدول الغربية. دعونا نأمل أن تتطور هذه المنظمة". (موقع أر تي، 1-11-2022).

وفي نفس الوقت رحب عدة رؤساء من أمريكا الجنوبية بعودة "لولا"، واعتبروا ذلك تقوية "للمد الوردي"، الذي يرمز إلى صعود اليسار في عدة دول من أمريكا الجنوبية، حيث فاز مرشحو يسار الوسط بالانتخابات الرئاسية في الارجنتين وبوليفيا وتشيلي والمكسيك وبيرو وكولومبيا التي عرفت فوز أول رئيس يساري. هذا إضافة إلى رؤساء في دول مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، والمعتبرين من طرف أمريكا وباقي الدول الغربية، حكاما مستبدين أو دكتاتوريين.

وأشار تقرير لوكالة رويترز، إلى كون صعود اليسار يعود إلى صدود الناخبين عن التيارات المحافظة المهيمنة على المنطقةّ، والتطلع إلى حكومات تولي اهتماما للإنفاق الاجتماعي ومواجهة الفقر الناتج عن جائحة كورونا. ويعتقد بعض الخبراء أن صعود اليسار، لا يعبرعن تحول أيديولوجي متجذر ودائم في أمريكا الجنوبية وأن السبب الرئيسي يعود إلى كون "المشاعر المعادية لشاغلي المناصب أصبحت قوية، والناخبون المستاؤون من الخسائر الصحية والاقتصادية للوباء يطيحون عبر صناديق الاقتراع بكل من يشغل القصر الرئاسي سواء كان يساريا أو يمينيا حسب ما ورد في تقرير مجلة "فورين بوليسي الأمريكية" "(عربي بوست، 20 -06-2022).

ويعتقد أن صعود اليسار في أمريكا الجنوبية وخصوصا في البرازيل، يمكن أن يسهم حسب البعض في توحيد الدول النامية في مواجهة الدول الغربية وإعادة النظر في هندسة النظام العالمي والمطالبة بنظام اقتصادي عادل. كما يشكل صعود الرئيس "لولا"، تحديا لأمريكا ولجماعات الضغط الداعمة لليبرالية المتوحشة.

ويلاحظ بأنه في مقابل هذا الترحيب العالمي بفوز "لولا"، هناك رفض لأنصار الرئيس السابق لهذا الانتصار؛ وصرح "لولا" بعد إعلان النتائج، "حاولوا دفني حيا وأنا الآن هنا لحكم البلاد.. في موقف صعب للغاية، لكني متأكد من أنه بمساعدة الناس سنجد مخرجا ونستعيد السلام"، وقال أيضا "الشعب البرازيلي يريد أن يعيش بشكل جيد ويأكل بشكل جيد يريد وظيفة جيدة وراتبا يتم تعديله دائما فوق التضخم ويريد الحصول على تعليم وصحة جيدين، يريد الحرية الدينية ويريد الكتب بدلا من البنادق.. الشعب البرازيلي يريد استعادة الأمل" (موقع نون بوست، 31-10-2022).

ويعتبر خطاب "لولا" هذا، بمثابة إدانة شاملة لحكم اليمين وتلخيصا لمطالب الشعب البرازيلي. فهناك حاجة أولا، لسلم اجتماعي وتداول للسلطة، الشيء الذي يبدو أن اليمين المتطرف لا يتقبله، حيث حاولوا الزج بالبلد في فوضى وتطاحن بين أنصار اليمين واليسار؛ ثم ثانيا هناك حاجة إلى سياسات اجتماعية ناجعة وعدالة ومساواة في اللجوء إلى خدمات المرافق العمومية.

ويعتقد البعض أن "البولسونارية" في البرازيل هي يمين متطرف، قريب من اليمين الأمريكي، حيث "تستمد كل هذه التيارات المتطرفة جذورها من أزمة اقتصادية واجتماعية تتفاقم سنة بعد سنة، ومن الزيادة في انعدام المساواة وانخفاض دخل الطبقة العامة والمتوسطة" وكما قال كرستوف فينتورا، مدير الأبحاث في مركز "ايريس" (موقع الشرق الأوسط، 22 أكتوبر 2022).

إن ظاهرة "البولسونارية" تهاجم المؤسسات، مثل المحكمة العليا، وتتهم النظام الانتخابي بأنه "احتيالي". وأشارت باحثة برازيلية من الجامعة الفيدرالية في "ريو" وهي ماريا غولارت، إلى كون شعبوية اليمين المتطرف في البرازيل، تجعل من "الزعيم هو الممثل المباشر للشعب" ولذلك تتم مهاجمة كل ما هو وسيط في الممارسة الديمقراطية، أي الأحزاب والمؤسسات والإعلام. ذلك أن "بولسونارو" يشكك في مصداقية الصحافة التقليدية ويلجأ إلى الإعلام البديل حيث يتم الترويج لخطاب المؤامرة؛ إذ يلاحظ عليه مناهضة العلم ورفضه للإجراءات الاحترازية لجائحة كوفيد، وكذلك تشكيكه في قضية المناخ، وهي مواقف شبيهة بتوجه تيار ترمب، كما رصدت بعض الدراسات.

تكمن خطورة الظاهرة "البولسونارية" في كونها تعمد إلى خطاب تحريضي، مدعوم من حركات إنجيلية تروج لمفهوم "المخلص" وتدعم ظهور زعيم فوق المؤسسات. وأشار مرصد الديمقراطية البرازيلية، إلى تمكين "بولسونارو"، العسكر من العودة إلى الحياة السياسية، من خلال تعيين قادة عسكريين متقاعدين أو في الخدمة، في مناصب وزارية أو مناصب إدارية من الدرجة الثانية أو الثالثة في الجهاز التنفيذي والمؤسسات الفيدرالية وهكذا فإن "عسكرة" أو إضفاء الطابع العسكري على الإدارة الفيدرالية البرازيلية، وصل مستويات عليا في عهد "بولسونارو" حيث أكدت الإحصائيات التي قامت بها مؤسسة ديوان المحاسبة، "TCU"، ما بين 2019 و2020، حيث ارتفعت نسبة عدد العسكريين في الإدارة، إلى حوالي 75%، أي من 3515 إلى 6157 عسكرياً ) observatoiredemocratiebresil .org). وبالتالي وصل عدد العسكريين في الجهاز التنفيذي والقضائي والتشريعي إلى حوالي 1138، كما ورد عن موقع "Poder 360". ويشير مرصد الديمقراطية البرازيلية كذلك، إلى هيمنة العسكر على المؤسسة الوطنية للهنود، "FUNAI"، الشيء الذي أثار حفيظة شريحة السكان الأصليين والتي عانت كثيرا من الانتهاك والمس بحقوقها، كما هو مسجل ومدون في تقارير "اللجنة الوطنية للحقيقة".

كما أدان المرصد كذلك هيمنة العسكر على مؤسسات تدبير الشؤون القروية والإصلاح الزراعي، وانعدام الخبرة الكافية في إدارة هذا القطاع الحيوي. ولاحظ المرصد كذلك فشل إدارة "بولسونارو" في إدارة جائحة كورونا، بسبب "عسكرة" القطاع الصحي وتعيين عدد من العسكر في مناصب مهمة دون خبرة في هذا المجال.

إن إقحام العسكر في كل مجالات تدبير الشأن الوطني والمحلي في البرازيل، أسهم إلى حد بعيد في تكريس العنف في المجتمع البرازيلي، بالإضافة بالطبع إلى اتساع دائرة خطاب الكراهية والتمييز واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وأزمة الطبقة المتوسطة، وهي من أسباب انقلاب شرائح اجتماعية متعددة على اليمين.

وهناك نقاش حاد بين الموالين لسياسة بولسونارو وسياسة لولا دا سيلفا، بحيث يذهب البعض إلى القول بأنه في فترة حكم "بولسونارو"، كان هناك إصلاح نظام التقاعد وسياسة الخوصصة بعدة شركات وفروع القطاع العام وإدارة جيدة لعملاق النفط البرازيلي "بتروبراسPetrobras " والذي حقق أرباحا مهمة؛ لكن الاقتصادي "اندريه كالبكستر"، يقول "إذا نظرنا إلى صناديق التقاعد الأوروبية والصناديق الخضراء التي هي أكثر تنظيما من الاستثمارات قصيرة الأجل، فسنجد أنها قد انخفضت فالقول بأن الاستثمارات وصلت إلى مستويات قياسية تحت حكم "بولسونارو" أمر أثبت خطأه. ربما على المدى القصير نعم، وهو ما سمح للمتداولين بجني الأموال سريعا، لكنه نجاح يتسم بالتقلب الشديد، كما أنه ليس دليلا على استقرار السوق البرازيلية على المدى الطويل" (فرانس 24، 20-10-2022).

وانتقد "كالبكستر" وهو من المؤسسين لصندوق "بولسا فاميليا"، استنساخ بولسونارو، تجربة "لولا" في توزيع منح عائلية على الفقراء، حتى يبدو هو بدوره أبا جديدا للفقراء، إذ اعتبرت سياسته في هذا المجال غير ناجعة، لأن المنحة لم تكن تسمح بالحق بالحصول على دعم اجتماعي في التعليم أو الصحة، بخلاف عهد "لولا". كما أن بولسونارو لم يقم بإعادة تقييم للأجور ولا سياسة حقيقة لمكافحة التضخم.. لذا فإن البؤس والجوع بات أوضح أكثر من ذي قبل (فرانس 24 نفسه).

ويدحض نفس الباحث، دعوى "التهديد الشيوعي" الذي يشكله فوز "لولا" حسب اليمين المتطرف إذ يرى أن "لولا" يعتمد سياسة اقتصادية معتدلة ولطالما بعث على الاطمئنان لدى الأسواق المالية والمستثمرين.

ويرد بعض الباحثين على اتهامات أنصار اليمين المتطرف لـ"لولا" بحيث "تصوره على أنه يساري شرير سيدمر البلاد، ولكن يجب أن لا ننسى أن الرئيس لولا كان لديه سياسة ضريبية تقليدية إلى حد ما. ففي ظل حكوماته المتعاقبة، كانت عائدات الضرائب أعلى من النفقات، وزاد معدل الاستثمارات الخاصة وكانت إدارته الاقتصادية محافظة للغاية. هذا الماضي ذاته يبعث إشارة مطمئنة أيضا" (فرانس24، 20-10-2022).

إن سقوط اليمين المتطرف والداعم لليبرالية المتطرفة والمتبني سياسة "عسكرة" الجهاز التنفيذي والتشريعي والقضائي، ليس ناجما عن مجرد تحول مزاج الناخب البرازيلي وإنما مؤشر حقيقي للخوف من رجوع النظام العسكري وهيمنته على الحياة السياسية من جديد.

ويبدو أن سقوط اليمين يعود بالأساس حسب عدد من المحللين البرازيليين وغيرهم لسوء تقدير إدارة الرئيس الخاسر، لتداعيات جائحة كرونا وتدني الوضع الاجتماعي الحقوقي. وكذلك خوف الناخب البرازيلي من انتشار فكر متطرف سيكرس الانقسام داخل المجتمع البرازيلي بينما يبحث المواطن عن استقرار اجتماعي. فهناك سعي وتطلع لفئات اجتماعية مهمة لتمكين "لولا" من إتمام مشروعه المجتمعي القادر على استعادة السلام في البرازيل وتدبير التنوع داخله والحفاظ على البيئة والاستمرار في تصنيع البلاد واسترجاع مكانة البرازيل الدولية.

548