استضاف الرئيس المكسيكي "أندريس مانويل لوبيز أوبرادور" خلال الفترة من 9 إلى 10 يناير الجاري، قمة قادة أميركا الشمالية التي أعطت دفعة جديدة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية.
الاجتماع الذي جمعه بنظيريه الأميركي "جو بايدن"، ورئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو"، غلفه جو مشحون بالخلافات حول سياسات الطاقة في المكسيك التي صرفت الانتباه عن التعاون في قضايا أخرى مثل الهجرة والتعاون الاقتصادي. كما واجهته تحديات تتراوح بين الركود الاقتصادي الذي يلوح في الأفق، ومستويات الهجرة المرتفعة التي تتطلب تعاونا إقليميا. وقد دارت المناقشات في القمة حول عدة محاور رئيسية، كالتكامل الاقتصادي، وتحديات المناخ، والصحة العامة، ومكافحة الجريمة، والهجرة غير الشرعية، ومكافحة التمييز العنصري، وحقوق المرأة ومجتمع الميم.
تعزيز التكامل الاقتصادي
تعد المكسيك وكندا أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة، ويمثل التعاون الاقتصادي بينهم ضعف حجم التعاون بين واشنطن والصين. وتستورد الولايات المتحدة حوالي 79٪ من صادرات كندا، و40٪ من قيمة الصادرات المكسيكية. كما تعتمد 5 ملايين وظيفة في الولايات المتحدة على التجارة مع المكسيك. وبذلك تشترك كندا والولايات المتحدة والمكسيك في واحدة من أكبر العلاقات التجارية في العالم. فيتم عبور سلع وخدمات بقيمة 2.5 مليار دولار يوميا. فضلا عن تحديد المكسيك باعتبارها سوقا ذات أولوية لتنمية الصادرات في كندا، التي تدير مكتبا إقليميا في المكسيك منذ عام 2000، وتقدم خدمات مالية واسعة النطاق تتعلق بالصادرات والاستثمارات في البلاد. (Prime Minister of Canada Web Site, 20 December 2022)
جاء لقاء القمة بين الرؤساء الثلاثة في وقت تزداد فيه معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، ولمواجهة الأزمة قرروا خلال جلسات القمة دفع التنافسية الاقتصادية لأميركا الشمالية، والعمل على تعزيز النمو الشامل، وتعميق التعاون الاقتصادي، وتشجيع الاستثمار، وتعزيز الابتكار من خلال تنظيم أول منتدى ثلاثي لأشباه الموصلات وزيادة الاستثمار في سلاسل توريدها عبر أمريكا الشمالية. وتقرر أن يشمل المنتدى كبار ممثلي الصناعة، فضلا عن التمثيل الحكومي الرسمي على مستوى الوزراء، على أن يعقد خلال الربع الأول من عام 2023. (Euro News, 10 Jan. 2023)
كذلك قرر المجتمعون توسيع العمل على المسوحات الجيولوجية لمعرفة موارد احتياطات المعادن في أميركا الشمالية. وأن تنظم المسوحات الجيولوجية لكل دولة ورشة عمل ثلاثية لتبادل البيانات وتسهيل التعاون. ودعم وتوسيع الشراكة مع القطاع الخاص لزيادة معدلات التنمية، بالإضافة إلى دعوة خبراء الصناعة والأوساط الأكاديمية الذين تخصصوا في أشباه الموصلات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتصنيع الحيوي، وغيرها من الصناعات التحويلية واللوجستية المتقدمة الرئيسية لجلسات حوارية حول المهارات اللازمة لتطوير القوى العاملة في أميركا الشمالية على مدى السنوات الخمس المقبلة. كما اتفق "بايدن" على إضافة كندا والمكسيك كشريكين حكوميين مشتركين في مبادرات صندوق الابتكار في الأميركتين. (Fact Sheet, White House Web Site, 10 Jan. 2023)
مواجهة وتقنين الهجرة
ولأن أزمة الهجرة آخذة في الارتفاع، فقد أخذت حيزا مناسبا في مناقشات قمة قادة أميركا الشمالية، في إشارة إلى مدى أهمية موضوع الهجرة بالنسبة للدول الثلاث. وقد أخبر "بايدن" الصحافيين في 4 يناير الجاري، أنه يعتزم زيارة الحدود الأميركية المكسيكية خلال رحلته إلى المكسيك لحضور القمة. (New York Times, 4 Jan. 2023) كما ذكرت "كارين زيسيس" في تقريرها لموقع "مجلس الأميركتين" COA أن "بايدن" أعلن في 5 يناير 2022 أن بلاده ستوسع برنامج الإفراج المشروط عن المهاجرين الذي بدأ في أكتوبر 2022، ليشمل 30 ألف مهاجر شهريا، جاءوا من كوبا وهايتي ونيكاراغوا وفنزويلا، ممن لديهم رعاة مؤهلون.
مع ذلك، فإن الإجراءات الأخرى التي تم الإعلان عنها حديثا تمكن الحكومة من الإسراع في إبعاد المهاجرين الذين يعبرون الحدود الأمريكية والمكسيكية والبنمية بشكل غير قانوني. وأصبحت مستويات الترحيل تحطم الأرقام القياسية. فقد سجلت هيئة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية CBP معدلا كبيرا في المواجهات الحدودية، فيما أطلق عليه "عمليات الطرد والتخويف" في عام 2022. (Zissis, COA Site, 6 Jan. 2023)
وقد أعاد قادة أميركا الشمالية أثناء انعقاد فعاليات القمة، التأكيد على التزامهم بالعمل معا لتحقيق هجرة آمنة ومنظمة وإنسانية إلى الدول الثلاث. ومواصلة دعم توسيع المسارات القانونية والتدابير الإنسانية الأخرى لمعالجة الهجرة غير النظامية في المنطقة، بما في ذلك وضع الصيغة النهائية لخطة العمل الثلاثية لتوسيع نطاق الشراكات الإنمائية وتنفيذها، مع خطوات عملية لتحسين التنسيق ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية. كما أعلنوا عن تأسيس منصة افتراضية لمنح المهاجرين وصولا مبسطا إلى المسارات القانونية، مما يعطيهم كافة المعلومات التي يحتاجون إليها للمجيء إلى المكسيك والولايات المتحدة وكندا بشكل قانوني، حتى لا يقعون فريسة للمهربين الذين يكذبون بشأن القيود الحدودية المعمول بها ويعرضون حياتهم للخطر. كذلك اتفق القادة على تبادل أفضل الممارسات والطرق التي تؤدي لزيادة سرعة وكفاءة أنظمة معالجة اللجوء، لضمان مساعدة الأفراد المؤهلين للإغاثة أو الحماية على الفور. وشددوا على مكافحة كراهية الأجانب والتمييز ضد المهاجرين واللاجئين، من خلال الترويج للمعلومات العامة المتوازنة عن المهاجرين واللاجئين لدعم اندماجهم في مجتمعات الدول الثلاث. (Fact Sheet, 10 Jan. 2023)
ومن المعروف أنه على الرغم من كل تلك التدابير التي تسعى إلى وقف الهجرة أو تقنينها، فإن الطلب الهائل على العمالة في أميركا الشمالية لا يمكن إنكاره. حتى أن الاقتصاد الكندي خسر ما يقدر بنحو 9.6 مليار دولار في عام 2021 بسبب نقص العمالة في قطاع التصنيع وحده. وفي العام نفسه، استقال في الولايات المتحدة أكثر من 47 مليون عامل من وظائفهم، خلال ما يعرف باسم الاستقالة الكبرى. وقد ذكرت الباحثة "أبها بهاتاري" أن ذلك ساهم في فجوة تقدر بنحو 11 مليون فرصة عمل. (Bhattarai, Washington Post, 16 September 2022) ومع بدايات عام 2022، كان قد انخفض عدد المهاجرين في سن العمل إلى الولايات المتحدة بمقدار مليوني مهاجر، نتيجة الإجراءات الاحترازية التي اتخذت بسبب جائحة كوفيد-19 خلال السنوات السابقة. وأدى ذلك إلى تفاقم حالة النقص في العمالة بشكل كبير. (Zissis, COA Site, 6 Jan. 2023)
العدالة ومواجهة التمييز
التزم القادة الثلاثة خلال القمة بتعزيز التنوع الاجتماعي، وتحقيق العادلة ومكافحة العنصرية من خلال إنشاء تبادل ثلاثي للخبراء لتحقيق مشاركة أفضل للممارسات والاستراتيجيات التي تعزز المساواة والعدالة العرقية في السياسة العامة. فضلا عن زيادة التعاون لتحقيق ذلك من خلال المنظمات الإقليمية والمتعددة الأطراف.
كما تم الالتزام بمكافحة العنف ضد المرأة، وخاصة من السكان الأصليين، من خلال دعوة القيادات النسائية المنتمين إلى السكان الأصليين في البلدان الثلاثة لمناقشة أولوياتهن ووضع توصيات تلتزم بها الحكومات الثلاث. كذلك مكافحة العنف ضد أفراد مجتمع الميم، من المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية والخناثى. أيضا تقرر إضافة المكسيك إلى الشراكة العالمية للعمل بشأن التحرش والانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي عبر الإنترنت، لمعالجة العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تسهله التكنولوجيا. (Fact Sheet, 10 Jan. 2023)
الأمن ومكافحة الجريمة
عمل التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والمكسيك لفترة طويلة تحت مظلة مبادرة ميريدا التي أعلن عنها في عام 2007 وتضمنت 3.3 مليار دولار من المساعدة الأمنية الأميركية للمكسيك. وبمرور الوقت، عززت المبادرة سيادة القانون على أساس المسؤولية المشتركة. لكن التعاون الثنائي توتر في عام 2020 عندما ألقت واشنطن القبض على وزير دفاع مكسيكي سابق بتهم تهريب المخدرات. تذكر الباحثة الأمنية "فاندا فيلباب براون" أن الكونجرس المكسيكي رد على ذلك بإصدار قانون يقيد عمليات وكلاء إنفاذ القانون الأجانب في المكسيك، وتم الإعلان عن إنهاء المبادرة الأمنية، بالرغم من أن واشنطن أفرجت عن الوزير. مما أدى إلى زيادة تجارة المخدرات وتعاطيها في الولايات المتحدة. (Brown, Brookings, 21 December 2020) ، ولكن في أكتوبر 2021، أطلق البلدان حوارا أمنيا رفيع المستوى، واستبدلت ميريدا بمجموعة من الاتفاقات لحماية المواطنين، ومنع الجريمة العابرة للحدود، وتفكيك الشبكات الإجرامية. وعملت كندا مع الدولتين من خلال اجتماعات حوار أميركا الشمالية حول المخدرات NADD خلال فترة رئاسة "باراك أوباما"، الذي كان بمثابة آلية للتصدي لتجارتها منذ عام 2016. (Obama White House Web Site, 29 June 2016)
القادة أكدوا خلال الجلسات الحوارية لقمة 2023 على التزامهم بتنسيق الإجراءات والاستراتيجيات لمكافحة تهريب الأسلحة والمخدرات، فضلا عن الاتجار بالبشر، ودعم تقنيات الأمن السيبراني. وتقرر استئناف حوار استراتيجية أميركا الشمالية لمكافحة الإتجار بالبشر وتحسين التعاون ضد الإتجار بالعمالة والجنس في المنطقة. كذلك استمرار التعاون والحوار في إطار استراتيجي محدث للتصدي لتهديدات المخدرات غير المشروعة، وهذا يشمل زيادة تبادل المعلومات حول المواد الكيميائية المستخدمة في التصنيع غير المشروع للفنتانيل والعقاقير الاصطناعية الأخرى. كما تم الاتفاق على تطوير موقف أميركي شمالي موحد ضد تلك التجارة. فضلا عن زيادة التعاون الثلاثي لتعزيز الأمن والسلامة النوويين في أميركا الشمالية. (Fact Sheet, 10 Jan. 2023)
التوافق حول الإجراءات الصحية
خلال الاجتماع السابق لقادة أميركا الشمالية في نوفمبر 2021 كانوا قد انتهوا من تلقيح أجزاء كبيرة من سكان بلادهم لمواجهة كوفيد-19. تلك الفترة التي شهدت أكبر موجة ارتفعت خلالها أعداد الحالات بشكل كبير، الأمر الذي أودى بحياة ما يقرب من 1.5 مليون شخص في أميركا الشمالية. وخلال العام نفسه وافقت الدول الثلاث على زيادة التزاماتها تجاه العالم بإتاحة الوصول العالمي للقاحات، وشحنت الدول الثلاث، حسب بيانات موقع مشروع (Our World in Data) الذي ترعاه جامعة أكسفورد، ما مجموعه 1.45 مليار جرعة لقاح إلى كل أنحاء العالم.
واستنادا إلى الدروس المستفادة من كوفيد-19، وحسب ما ورد في بيان البيت الأبيض حول توصيات القمة، التزم القادة بمشاركة المعلومات، ووضع سياسات عامة لحماية بلدان أميركا الشمالية من الأزمات الصحية الحالية والمستقبلية. وذلك بمراجعة خطة بلادهم للأنفلونزا الحيوانية وغيرها من الأوبئة، لتعزيز قدرتهم على الاستجابة لتهديدات الأمن الصحي، بما في ذلك الإنفلونزا وما بعدها. (Fact Sheet, 10 Jan. 2023)
مواجهة تغير المناخ
لطالما أبرمت دول أميركا الشمالية اتفاقيات تهدف إلى بذل جهود مشتركة لحماية البيئة ومواجهة تغير المناخ. وأعلنت كافة الأطراف مسبقا التزامات بيئية قوية وقابلة للتنفيذ، تضمنت التدابير المتعلقة بمصايد الأسماك والأنواع المهددة بالانقراض وإدارة الغابات وجودة الهواء. بالرغم من أن الدول الثلاث من بين أكبر الدول المسببة لانبعاث ثاني أكسيد الكربون في العالم، حيث تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثانية في العالم، واحتلت كندا المرتبة 11، والمكسيك في المرتبة الخامسة عشرة. وجميعهم من الموقعين على اتفاقية باريس للمناخ، التي تتطلب منهم وضع التزام وطني محدد للحد من الانبعاثات. وخلال COP-27 أعلنت المكسيك عن تحديثات في مساهماتها لتقليل الانبعاثات بنسبة 22-35٪ بحلول عام 2030. كما أعلنت الولايات المتحدة تخفيض بنسبة 50-52٪ بحلول عام 2030. وكندا بنسبة 40-45٪ بحلول عام 2030. (Zissis, COA Site, 6 Jan. 2023)
وتدرك الولايات المتحدة والمكسيك وكندا الحاجة الملحة لاتخاذ تدابير سريعة ومنسقة وطموحة لبناء اقتصادات الطاقة النظيفة والاستجابة لأزمة المناخ. وفي قمتهم التزم القادة الثلاثة بمكافحة أزمة المناخ من خلال الالتزام بخفض انبعاثات الميثان من قطاع النفايات الصلبة ومياه الصرف الصحي بنسبة 15٪ على الأقل بحلول عام 2030، وتعميق التعاون بشأن قياس الميثان الزراعي والتخفيف من حدته، بما في ذلك تحقيق التعهدات العالمية بهذا الشأن. كما اتفقوا على وضع خطة عمل للحد من الفاقد والمهدر من الأغذية بحلول نهاية عام 2025. وتبادل المعلومات بينهم حول أفضل الممارسات لكهربة الحافلات العامة، وإزالة الكربون منها. كذلك تم الاتفاق على وضع خطة لمعايير التشغيل وتركيب شواحن على طول الحدود الدولية لضمان انتقال سهل لشحن المركبات الكهربائية من بلد إلى آخر. وتم التعهد بالالتزام بالتعاون الثلاثي للحفاظ على 30% من مساحة اليابسة والمحيطات في العالم بحلول عام 2030. وتطوير سوق هيدروجين نظيف في أميركا الشمالية، بما في ذلك التعاون المحتمل في البحث والتطوير، وقواعد ومعايير السلامة، وممرات الشحن الخضراء. (Fact Sheet, 10 Jan. 2023)
خاتمة
تحتوي القارة الأميركية الشمالية على 10% من سكان العالم، وتمثل ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها الجزء الأكثر تماسكا سياسيا واقتصاديا في العالم خلال هذه المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخه. وقد قدمت هذه القمة لرؤساء دول القارة الثلاث فرصة لتعزيز القدرة التنافسية فيما بينها بعد سنوات من الجمود بسبب مواجهة جائحة كوفيد-19، وتصدر الأزمة الأوكرانية للمشهد السياسي والأمني العالمي.
ويجعل التعاون في أميركا الشمالية بلدانها أكثر أمانا، واقتصاداتها أكثر قدرة على المنافسة، وسلاسل التوريد لديها أكثر مرونة. من خلال تلك اللقاءات أصبحت بلدان أميركا الشمالية أكثر قدرة على مواجهة التحديات العالمية الراهنة، مثل تغير المناخ، والأوبئة، والمنظمات الإجرامية العابرة للحدود، والإتجار بالبشر وتهريبهم، وتجارة المخدرات. ويعزز ذلك الترويج لرؤية أميركية مشتركة تكونت من خلال الاستفادة من دروس القمم السابقة بتعزيز مبادرات وإعلانات جديدة.