قررت السُّلطات السودانية إطلاق سراح نزلاء سجن (كوبر) المركزي، الأحد 23 أبريل الجاري، عقب موجة احتجاج عارمة قادها المحتجَزون لانعدام الغاز وانقطاع المياه، في أعقاب اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل الحالي.
أتى الإفراج عن محتجَزي سجن كوبر بعد يومين من اتهام الجيش لقوات الدعم السريع بالهجوم على سجن الهدى شمال أم درمان وإطلاق سراح كل المحتجَزين.
أما بقية السجون، مثل سجن أم درمان (التائبات) و(سوبا) وسجون الولايات، فقد تم تسريح المحبوسين فيها وفقاً لتقديرات من إدارات السجون لظروف موضوعية، تتمثل في انعدام الأمن، وعدم قدرة الشرطة على توفير المأكل والمشرب والعناية الطبية للمسجونين.
تداعيات حديث هارون
وبينما ترتفع عقيرة المظان والاتهامات المتبادلة بين طرفي النزاع، وتحميل كليهما الآخرَ مسؤولية إطلاق سراح السجناء، أعلن القيادي البارز في نظام الرئيس المعزول عمر البشير الثلاثاء الماضي، مُغادرته هو وعدد من المسؤولين السابقين في حزب المؤتمر الوطني سجن (كوبر) بعد احتجاز دام 4 أعوام.
قال أحمد هارون ، وهو آخر رئيس لحزب المؤتمر الوطني المحلول: (بناءً على طلب القوة المتبقية من تأمين السجن تحركنا لموقع آخر خارجيه تحت حراسة محدودة لا تتعدى ثلاثة أشخاص على أمل أن تتحصل سلطات السجون على أمر قضائي بالإفراج عنا ولكن تعذر ذلك)، مُشيراً إلى أنهم اتخذوا قرارهم الخاص بتحمل مسؤوليتهم في توفير الحماية لأنفسهم، في ظل ازدياد حدة الاشتباكات المسلحة التي كانت تدور حولهم، معلناً جاهزيتهم للمثول أمام السلطة القضائية متى تمكنت من القيام بمهماتها لثقتهم في موقفهم القانوني.
ويواجه أحمد هارون المطلوب أيضاً للمحكمة الجنائية الدولية والمعتقل منذ العام 2019، عدداً من التهم من بينها بلاغ فتوى قتل المتظاهرين، وقضايا أخرى متعلقة بجرائم حرب وقعت في إقليم دارفور.
يقول هارون إن قيادات (ثورة الإنقاذ الوطني) ظلت في محبسها بسجن كوبر، تحت تقاطع نيران المعركة الدائرة بين الجيش والدعم لمدة 9 أيام، يتشاركون وبقية النُّزلاء الظروف الأمنية وانعدام مقومات الحياة، في انقطاع تام للمياه والكهرباء والرعاية الصحية حتى للجرحى من قوة تأمين السجن والنزلاء، ما أوقع عدداً من القتلى والجرحى في وسطهم.
يواصل، أنه ونتيجة للأوضاع المتردية داخل السجن خرج كل النُّزلاء الأحد الفائت بالقوة، حتى خلى من المحتجَزين، باستثناء قلة لا تتجاوز عشرة من قادة وضباط السجن. وأنهم وُضِعوا طوال السنوات الماضية كرهائن إرضاءً لقوى سياسية وإقليمية ودولية، وحمل السلطة القائمة الآن مسؤولية إشعال الحرب.
نقطة محورية
قال هارون: (نفرق تماماً بين القائمين على السلطة ومؤسسات الدولة الوطنية، وفي مقدمتها قواتنا المسلحة التي تقاتل بشرف وبشجاعة وبسالة كالعهد بها، وندعو كل جماهير شعبنا وعضويتنا لمزيد من الالتفاف حولها ومساندتها).
هذا الحديث أثار الجدل وجدد الاتهام بوجود علاقة وتنسيق محكم بين قيادات من الجيش والحركة الإسلامية السودانية، وزادت اشتعالَ هذه الفرضية دعوتُه منتسبي قوات الدعم السريع التي وصفها بالمُنحلة للانخراط في الجيش وترك الالتزام تجاه قيادتها الحالية التي ثبت أنها تقودهم لمشروع شخصي وأسري فقط. وفقاً لتعبيره. فضلاً عن استنفاره قواعدَ حزبه للانخراط في حرب الكرامة والاصطفاف والالتفاف الكامل حول الجيش.
الدعم السريع يرد
قوات الدعم السريع اعتبرت حديث هارون كشفاً للحقائق بجلاء وبشكل مفضوح، حيث تحدث نيابة عن قيادات النظام البائد الذين غادروا سجن كوبر على أيدي القوات الانقلابية وكتائب المجاهدين. قالت إن المخطط المكشوف بين قيادات الجيش وشركائهم من النظام البائد يستهدف تقويض ثورة الشعب.
حزب الأمة القومي سار في الاتجاه نفسه، الذي سارت فيه قوات الدعم السريع، واعتبر خروج قيادات النظام البائد من السجن، يؤكد ما ذكره في بيانات سابقة من ضلوعها في تفجير هذه الحرب، وطموحها للعودة إلى الحكم عبر فوهة البندقية، وتقف شاهدة على ذلك تصريحاتُ قادتهم المتكررة في شهر رمضان.
قوى الحرية والتغيير الموقعة على الاتفاق الإطاري والكتلة السياسية البارزة في السودان، وصفت خروج قادة النظام المعزول من السجن بأنه يعني زيادة اشتعال الحرب، وأن بيان أحمد هارون دليل على أن النظام البائد يقف خلف الحرب في السودان. ودعت إلى توحيد الصفوف للتصدي لمخططات الفلول الشريرة.
الجيش على الخط
بدوره سارع الجيش السوداني بالرد على تسجيل هارون الصوتي، وقال في بيان له إنه غير معني بأي بيانات تصدر من أي جماعة أو أفراد خرجوا من السجون، بما فيها بيان أحمد هارون المحتجَز على خلفية بلاغات سياسية.
أضاف الجيش أنه لا علاقة للقوات المسلحة به ولا بحزبه السياسي. وقال الناطق باسم القوات السودانية: "شهدت بعض السجون في السودان اضطرابات خلال الأيام السابقة مع اقتحام المليشيا المتمردة سجونَ الهدى وسوبا والنساء بأم درمان، وإجبار شرطة السجون على إطلاق سراح النزلاء بعد قتل وجرح بعض منتسبي الأمن، بجانب تصرف إدارة سجن كوبر بإطلاق سراح نزلائه بسبب انقطاع خدمات المياه والكهرباء والإعاشة، مما خلق تهديداً إضافياً على الأمن والطمأنينة العامة بمدينة الخرطوم يخشى من تمدده إلى ولايات أخرى".
تابع قائلاً: (بدأ النزلاء في بعض السجون المطالبة بإطلاق سراحهم أسوة بما جرى في بعض سجون ولاية الخرطوم، وما قد يترتب على ذلك من فوضى وانتشار للجرائم خاصة وأن بعض هؤلاء النزلاء محكومون أو منتظرون بموجب جرائم جنائية خطرة).
تعزيز فرضية الدعم السريع
منذ اليوم الأول للحرب، اتهم قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، قائدُ الحركةَ الإسلاميةَ السودانية علي كرتي بإشعال الفتنة بين الجيش والدعم السريع. بيد أن معظم المراقبين رأوا أن هذا الاتهام معمماً، والواقع هو أن ليس كل الجيش منخرطاً في خطة الإسلاميين، مستشهدين بأن قسماً كبيراً من الضباط تفاجأ باندلاع القتال، وحضر لمكان عمله ووجد جنود الدعم السريع في انتظاره ليأسروه، فيما رأى آخرون أن هؤلاء الضباط قُصد تغييبُهم لعدم علاقتهم بالتنظيم الإسلامي داخل الجيش.
من الواضح جداً أن البيان الذي أصدره نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني المحلول أحمد هارون بشأن الأحداث الجارية في السودان، بعد خروجه من سجن كوبر الاتحادي، أحرج الجيش السوداني وعزز الفرضية التي انطلق منها قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو لقيادة الحرب، وذلك بأن دافعه لها هو انقلاب تقف وراءه قيادات من النظام البائد، فالمفردات التي استخدمها هارون في بيانه بلغت في التحدي مداها، فهي لم تكتف بالدعوة لمساندة الجيش بل اعتبرت معركته معركة كرامة ووجهت منتسبي الحزب للانخراط والمشاركة فيها ما جعل عقيرة المظان ترتفع بأن ثَمة علاقةً راسخةً وتنسيقاً بين الطرفين، وهو ما اجتهد الجيش على نفيه في بيانه بعد أن بلغ التأثير السالب عليه في الرأي العام مداه نظير هذه العلاقة.
سناريوهات متوقعة
كشف بيان أحمد هارون ظهر الجيش من الناحية السياسية، وبالتالي سيؤسس لانقسام داخله، فالفريق الذي سيدعم ما حدث ويحاول تبريره سيكون صوته خافتاً خوفاً من الرأي العام السوداني الرافض بشدة لعودة أنصار البشير إلى الحكم، وكذلك سينفخ البيانُ في الفريق المنكر لتهميشه واتخاذ قرارات مصيرية دون علمه داخل الجيش الروحَ وسيبدأ في مناهضة ذلك، وهذا سيقود إلى صراع حول مركز القرار في الجيش. بدا ذلك واضحاً من موقفه إزاء مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد) بين التأييد والرفض والاستقرار على الموافقة من حيث المبدأ، لتتدخل وزارة الخارجية على الخط وتعلن رفضها المبادرةَ لتُدخِل الجيشَ في الاحراج نفسه الذي أدخله فيه بيان هارون.
في المقابل وفي إطار المساندة التي يقوم بها عناصر النظام البائد لصالح الجيش، عزز بيان هارون فرضية أن الحركة الإسلامية هي التي قادت الحرب وفرضتها، في مظنة منها أن معركة استعادة السلطة تبدأ بضرب أكبر مهدد لها (الدعم السريع). فقد كانت تظن أيضاً أن التاريخ سيعيد نفسه كما حدث في 30 يونيو 1989، لكن حتى الآن لم يكن الأمر نزهة وحتى وإن انتصر الجيش لن ينال الإسلاميون مبتغاهم بالعودة إلى السلطة، لأن قادتهم أدركوا أن المضي في هذا الطريق يعني الحريق شعبياً.