مقالات تحليلية

حالة الكونغرس.. طبيعة وتأثيرات الأزمة السياسية في الولايات المتحدة

12-Oct-2023

في العاشر من أكتوبر الجاري حاول الجمهوريون الذين يواجهون ضغوطا من كل الأطراف داخل الولايات المتحدة للتحرك من أجل دعم أوكرانيا وإسرائيل، تهدئة التوتر والاتفاق على "رئيس" جديد لمجلس النواب في الكونغرس الأميركي. فالتصويت على كل هذه القضايا الدبلوماسية الساخنة وكذلك أزمة الميزانية التي تلوح في الأفق، معلق، وهذا الوضع غير مسبوق على الإطلاق، (فرانس برس، 11 أكتوبر 2023)

وتواجه الولايات المتحدة الأمريكية أزمة سياسية غير مسبوقة داخل أروقة الكونغرس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وداخل الحزب الجمهوري صاحب الأغلبية في مجلس النواب، كان محور الصراع فيها رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي.

واجه مكارثي تمرداً من المتشددين الذين يعملون على إغلاق الحكومة الفيدرالية على الرغم من الضرر الذي يلحقه ذلك بالعمل الحكومي وما يترتب عليه من إيقاف تمويل الجيش والخدمات الفيدرالية لملايين الأمريكيين، وكان مكارثي قد توصل مع الأقلية الديمقراطية لاتفاق على إجراء مؤقت لتمرير الميزانية حتى 17 نوفمبر 2023 لمنح الكونغرس فرصة لإكمال عمله، (لوس أنجلوس تايمز، 26 سبتمبر2023).

وتتضمن الموازنة 6 ملياراتٍ مساعداتٍ لأوكرانيا و6 ملياراتٍ لمواجهة الكوارث، وهو أمر يعارضه المتشددون في الحزب الجمهوري، وقد وصف زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ تشارلس شومر القرار المؤقت بأنه خطوة لمنح فرصة للابتعاد عن اتخاذ موقف متطرف، (لوس أنجلوس تايمز، 26 سبتمبر2023).

 حدث ذلك في ظل انقسامات حادة صوت خلالها الكونغرس الأمريكي لأول مرة في تاريخه لعزل رئيسه الجمهوري مكارثي. تقول وكالة فرانس برس في أحد تقاريرها أن إطاحة مكارثي من رئاسة المجلس أدت إلى تعليق السلطات الرئيسية لهذه المؤسسة التي تعد واحدا من أقوى البرلمانات في العالم، (فرانس برس، 11 أكتوبر 2023).

 هذه الخطوة تطرح أسئلة كثيرة حول دور التيار المتشدد في الحزب بقيادة بات غيتس المقرب من الرئيس ترامب في تشكيل مستقبل الحزب ورؤيته لدخول الانتخابات القادمة عام 2024، في وقت يواجه فيه ترامب تهماً قد تقود إلى إدانته على الرغم من أنه يُعد حتى الآن من أقوى المرشحين الجمهوريين لخوض الانتخابات.

 ويبدو أن التيار المتشدد داخل الحزب الجمهوري قد استفاد من المواقف المتناقضة لمكارثي بسبب التسويات التي أبرمها مع الديمقراطيين حول تمويل الحرب في أوكرانيا وتمرير الميزانية، وارتباط وشكوك حول ارتباط مكارثي بوزارة الدفاع والأجهزة الأمنية الأمريكية التي كانت تحذر من إغلاق الحكومة الفيدرالية ومنعها من الوفاء بالتزاماتها.

بعد عزل مكارثي يبدو أن التيار المتشدد قد كسب الجولة ضد معتدلي الحزب الذين كان مكارثي يمثلهم، ونجح التيار المتشدد في مساعيه منذ أن ظل يعارض انتخاب مكارثي من البداية حيث فشل الأخير خمس عشرة مرة في الحصول على الأصوات داخل مجلس النواب كرئيس له.


أقلية متشددة تعزل رئيسها

أظهرت عملية التصويت التي تم بموجبها عزل مكارثي مفارقة غريبة داخل أروقة السياسة الأمريكية وكواليسها، حيث تمكن ثمانية من النواب الجمهوريين المتشددين بقيادة بات جيتس داخل الحزب الجمهوري بمعاونة 208 من النواب الديمقراطيين من عزل رئيسهم على الرغم من معارضة أغلبية أعضاء مجلس النواب الجمهوريين عمليةَ العزل، إذ صوت 216 على عزل الرئيس بينما عارض عزلَه 210 من الجمهوريين، (بي بي سي، 4 أكتوبر2023). 

كانت الأغلبية من الديمقراطيين قد تراجعت عن الوقوف بجانب مكارثي على الرغم من الدور الذي قام به في التصويت على منع الإغلاق، ورفض مكارثي تقديم تنازلات لإنقاذه من قبل الديمقراطيين وهو ما جعلهم يصوتون ضده. وقد انتُخب باتريك ماكينزي رئيساً مؤقتاً للمجلس ويُتوقع أن يقوم المجلس بانتخاب رئيس جديد بعد عودته للانعقاد في ظل مطالب من الديمقراطيين بتعجيل انتخاب رئيس جديد، حيث يبرز عدد من المرشحين ضمن قائمة تضم كلاً من النواب ستيف سكاليز من ولاية لويزيانا وتوم وايمر من ولاية مينيسوتا والنائبة إليز إستسفانيك وهي أعلى قيادية في الحزب الجمهوري والنائب توم كول من ولاية أوكلاهوما، ولن يتمكن الكونغرس من العمل بصورة طبيعية حتى 17 نوفمبر 2023 الأمر الذي ربما يعطل الحكومة الفيدرالية. 


علاقة مضطربة

ظلت العلاقة بين كيفين مكارثي والمجموعة المتشددة مضطربة منذ انتخابه بسبب موقفه المعارض للمجموعة التي اقتحمت الكونغرس في 6 يناير 2021 بواسطة مجموعة من المشاغبين يعتقد أن لهم علاقة بدونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة، كما أن كيفين لم يتبنّ اتهامات ترامب حول سرقة الانتخابات. وتعرف هذه المجموعة المتطرفة باسم مجموع (ماغا) أو Freedom Caucus، وهي مجوعة مؤيدة لدونالد ترامب. ويبدو أن مكارثي قد وجد نفسه أمام موقف مضطرب وحائراً بين الوقوف مع المجموعة المتشددة من ناحية وتجنب عملية الإغلاق، فاختار موقفاً رآه المتشددون من الديمقراطيين معتدلاً، ونُظر إليه كخيانة لمبادئ الحزب من قبل مجموعة (ماغا).

لقد شجع زعيم الأقلية الديمقراطية حكيم جيفرز أعضاء حزبه على عزل مكارثي، ووصف مجموعة (ماغا) بأنها متطرفة تتوافق مع نداءات ترامب بجعل أمريكا دولة عظيمة Make America Great Again، (وكالة الأناضول، 3 أكتوبر 2023).


تداعيات الإغلاق الحكومي

ظلت قضية إغلاق أعمال الحكومة الفيدرالية تمثل جزءاً من عملية الصراع السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري وتُستخدم في الضغط على الطرف الآخر للحصول على تنازلات منه وإضعاف موقفه وجماهيريته، خاصة قرب الانتخابات التي تتم كل أربع سنوات بالنسبة للرئيس، أو خلال فترات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس وحكام الولايات التي تتم كل عامين.

تم وضع سقف التمويل الفيدرالي عام 1917 خلال قترة الحرب العالمية الأولى (سبوتنيك نيوز 15 مايو 2015)، وفي عام 1939 خلال الحرب العالمية الثانية وضع الكونغرس لأول مرة سقفاً إجمالياً للديون الفيدرالية، وفي عام 1960 تم رفع سقف الديون حوالي 78 مرة، وتكرر ذلك 20 مرة منذ عام 2001، وهو إجراء يقوم به الحزب الذي في المعارضة للضغط على الحكومة وإضعاف موقفها. وفي عام 2021، تم وضع أعلى سقف للدين بحيث لا يتجاوز 33 ملياراً على ألا يزيدَ إجمالي الدين الفيدرالي على هذا الحد.

ويقول ديفيد ويسيل من بروكنغز إنه بموجب قانون مكافحة العجز (الذي تم إقراره في البداية عام 1884 وتم تعديله في عام 1950)، لا تستطيع الوكالات الفيدرالية إنفاق أو إلزام أي أموال دون اعتماد (أو موافقة أخرى) من الكونغرس. عندما يفشل الكونغرس في سن مشروعات قوانين الاعتمادات المالية السنوية الاثني عشر، يجب على الوكالات الفيدرالية إيقاف جميع الوظائف غير الأساسية حتى يتصرف الكونغرس. يُعرف هذا بإغلاق الحكومة. إذا قام الكونغرس بسن بعض مشروعات قوانين الاعتمادات الاثني عشر، وليس كلها، فإن الوكالات التي ليست لديها اعتمادات فقط هي التي يجب أن تغلق أبوابها؛ يُعرف هذا بالإغلاق الجزئي، (بروكنغز، 1 أكتوبر 2023). 

وفي حال إغلاق الحكومة الأمريكية فإن أبرز السلبيات التي سيشهدها الاقتصاد، هي تراجع نمو الناتج المحلي وارتفاع معدل البطالة وتأخر رواتب الموظفين الحكوميين، وتعطل قطاع المواصلات. 

ووفق سي إن إن سوف يشعر ما يقرب من 2.2 مليون أمريكي من الموظفين الفيدراليين ــ بالإضافة إلى 1.3 مليون جندي في الخدمة الفعلية ــ بالتأثير فوراً إذا لم يتم تمويل وكالاتهم. سيبقى العمال الأساسيون في وظائفهم، لكن سيتم منح إجازة للآخرين حتى انتهاء الإغلاق. لن يُدفع أي شيء خلال المأزق، (سي إن إن، 29 سبتمبر، 2023).

وعلى المستوى الوطني، يمكن أن تكون لإغلاق المؤسسات الحكومية عواقبُ اقتصادية بعيدة المدى، مما يَعُوق النمو ويعزز حالة عدم اليقين، خاصة إذا طال أمده. وتشمل بعض هذه التكاليف رفع معدل البطالة، وخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي، ورفع تكلفة الاقتراض. كل أسبوع من إغلاق الحكومة يمكن أن يكلف الاقتصاد الأمريكي 6 مليارات دولار ويقلص نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.1 نقطة مئوية في الربع الرابع من عام 2023، وفقاً لتقديرات شركة "إي واي". كما أن الإغلاق يجعل حالة الاقتصاد الأمريكي غير واضحة. في مثل هذه الحالة، يتوقف مكتب إحصاءات العمل عن نشر البيانات، مثل الأرقام الرئيسية حول التضخم والبطالة، مما يجعل من الصعب على بنك الاحتياطي الفيدرالي والمستثمرين تفسير الاقتصاد واتخاذ القرارات، والتي تعد حاسمة بشكل خاص في الوقت الحالي، إذ يمر بنك الاحتياطي الفيدرالي بنقطة محورية في حملته لهزيمة التضخم المرتفع، (سي إن إن عربية، 30 سبتمبر، 2023).


مناقشة

ما حدث في الكونغرس من قبل المجموعة المتشددة يعد امتداداً لسياسة الرئيس السابق دونالد ترامب الانعزالية التي كان يدعو لها، وأكد ذلك بعد انتخابه بتصريحات تشير إلى تخفيض الإنفاق العسكري الأمريكي على حلف الناتو، وعدم الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، والابتعاد عن تبني النظرة التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية التي تُعلي من شأن القيم الأمريكية.

 ترامب كان يرى أن المشكلات الاقتصادية سببها الصفقات التجارية غير المتكافئة خاصة مع الصين، وهناك اعتقاد أن سياسات ترامب ومعتقداته تعود إلى تربيته الدينية وقلة خبرته السياسية، والمعروف أن الميزانية التي تسببت في عزل مكارثي كانت تتضمن مساعدات لأوكرانيا وهو ما كان يرفضه الجناح المتشدد في الحزب، وهناك خلافات جوهرية بين سياسة الحزب الجمهوري خاصة الجناح المتشدد المرتبط بترامب، والحكومة الفيدرالية التي يقودها بايدن حول العديد من القضايا التي من أهمها: 

 1. تبني نهج مختلف عن السياسة الانعزالية التي اتبعها ترامب، وعودة أمريكا إلى العالم بدلاً من منهج أمريكا أولاً.

2. تعزيز العلاقات مع دول جنوب شرق آسيا.

3. إعلاء القيم الأمريكية وحقوق الإنسان والديمقراطية في التعامل مع الدول الأخرى.

4. النأي عن استخدام القوة العسكرية لحل مشكلات السياسة الخارجية الأمريكية.

من خلال المعطيات الماثلة فإن عزل مكارثي يواجه تحديات كثيرة ومعقدة حول إمكانية التوصل إلى توافق داخل الحزب الجمهوري على اختيار رئيس جديد يستطيع أن يوحد الحزب ويمتص غضب المتشددين وصقور الحزب، خاصة في ظل حالة الغضب التي تسيطر على ترامب بعد أن تمكن الديمقراطيون من الدفع به إلى ساحة القضاء حسب اعتقاد المتشددين بهدف إبعاده من الترشح للانتخابات القادمة، وما زال الكثير من الأمريكيين يعتقدون حسب استطلاعات الرأي العام أن ترامب يحافظ على قدر من الجماهيرية، إذا ما قرر الحزب الديمقراطي إعادة ترشيح جو بايدن الذي يحتفظ بحقه في فرصة ثانية على الرغم من تقدمه في السن وهو عامل ربما يهدد فرصه في الحصول على ولاية ثانية.

في حال فشل الكونغرس بعد 17 نوفمبر 2023، في تمرير الميزانية خاصة البند المتعلق بأوكرانيا، فقد يؤدي ذلك إلى مضاعفة الأعباء التي يمكن أن تتحملها الدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا والتي لن تتمكن من الوفاء بالالتزامات التي وعدت بها الولايات المتحدة لمواجهة الغزو الروسي، ولكن التوقعات تظل معلقة خاصة أن انتخاب رئيس جديد للمجلس يحتاج لتصويت 218 عضواً من المجلس وهذا يعني أن عليه أن يكسب أصوات المتشددين، وقد ألمح تشارلس شومر الزعيم الجمهوري إلى أن هناك إمكانية إجراء تسوية وأن الموافقة على القانون المؤقت تتيح الفرصة للوصول إليها. على الرغم من أن توم كول عضو المجلس من ولاية أوكلاهوما صرح بأن الجمهوريين لن يلتزموا باتفاق كيفين مع الديمقراطيين (بوليتيكو 8 أكتوبر 2023)، وهي تصريحات تزيد تعقيد الموقف. 


368