مقالات تحليلية

تونس .. توتر سياسي وخيارات صعبة

20-Feb-2023

باتجاه المزيد من التعقيد والانقسام، يُمكن توصيف المشهد السياسي في تونس منذ بدء حملة الاعتقالات التي يقودها الرئيس التونسي قيس سعيد. الحملةُ التي تُعدُّ الأقوى والأشرس والأوسع ضد من اتهمهم بالفساد والتآمر على الدولة وبالإرهاب، في إشارة واضحة إلى أنها مستمرة ولن تتوقف بسبب تهديد المستهدفين منها لأمن البلاد واستقرارها. 

يبدو أن الرئيس سعيد يستكمل بهذه الحملة خارطة الطريق التي رسمها لسياسته الداخلية، والتي كان قد ابتدأها منذ 25 يوليو 2021، بسلسلة إجراءات استثنائية أدت إلى إعفاء رئيس الحكومة من منصبه، وحلِّ كل من البرلمان، والمجلس الأعلى للقضاء، والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أتبعها بعد ذلك بإجراء استفتاء شعبي على دستور جديد، وانتخابات برلمانية في ديسمبر 2021.

حملة الاعتقالات التي شملت قيادات سياسية وحزبية ونقابية وقضاة وإعلاميين ورجال أعمال، تأتي في ظل أزمة سياسية حادة تعيشها البلاد، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً باتجاه المزيد من التعقيد، ومرحلة جديدة من التجاذبات السياسية الحادة، وتعميق الانقسام بين تيارين أصبحا بارزين في البلاد. 

- الأول تيار السلطة، يتزعمه الرئيس التونسي الذي يعلن أنه يقود عملية إصلاح سياسية شاملة تجتث الإخوان المسلمين والفساد المرتبط بهم.

التيار الثاني، يضم مكونات وأحزاب سياسية ونقابات وحركات أخرى، تُطلق على نفسها صفة التيار المعارض، تتصدرها جبهة الخلاص الوطني التي تتألف من أحزاب سياسية معارضة عدة، وحزب النهضة الذراع التونسي للإخوان المسلمين أكبرهم وأكثرهم تنظيماً ونفوذاً. 

ويمكن القول إن السمة العامة للمشهد السياسي هو محاولة كل الفرقاء المتخاصمين استغلال التطورات لمصلحتهم. فالرئيس سعيد يسعى لتثبيت أركان سلطته من جهة، واستعادة هيبة الدولة ونفوذها، خاصةً من تيار الإخوان الذي كان مسيطراً في البلاد قبل مجيئه، وبقي محافظاً على انتشاره ونفوذه بسبب أعضاءه الكثر الذين زرعهم في أهم وأبرز مفاصل الدولة. وتيار المعارضة الذي يقوده حزب النهضة، ويتحكم في تأجيجه ودفعه باتجاه التصعيد مع الرئيس سعيد في إطار استغلال ما يجري في البلاد لضرب شعبية الرئيس وتحقيق عودة سريعة إلى السلطة. 

أمام هذه التطورات، تزايدت وتيرة الانتقادات الداخلية والخارجية، حيث أعلنت الخارجية الأمريكية على لسان المتحدث باسمها نيد برايس أنها تشعر بالقلق تجاه التقارير التي تؤكد وجود اعتقالات في تونس تستهدف سياسيين وصحافيين ورجال أعمال (الحرة، 15 فبراير، 2023). كذلك اعتبر الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيف بوريل أن الحوار الشامل في تونس بات ضرورة، وسيبقى إلى جانب الشعب التونسي (اندبندنت عربية 16 فبراير، 2023). 


أسباب الاعتقالات: المعلنة والمحتملة 

أثارت حملة الاعتقالات والتوقيفات تساؤلات كثيرة بشأن أسبابها الحقيقة والدوافع وراءها، لاسيما في ظل الغموض الذي يكتنف خلفية بعض الموقوفين. في محاولة تقديم إجابات، سيبرز واضحاً موقفان رئيسيان تراوحت إجاباتهما بين فرضية حماية الدولة، وبين فرضية تصفية المعارضة.

مبررات السلطات التونسية: تقدم السلطة التونسية مبرراتها حول حملة الاعتقالات والتوقيفات بأنها، ورغم كونها متزامنة مع بعضها البعض، بسبب ملفات مختلفة، ولا تخص ملف واحد، بل قضايا متعددة وعدة أطراف ومستويات. تهدف إلى حماية أمن البلاد بسبب مساسها وتهديدها للأمن القومي، حيث توجه تهم بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، بهدف محاولة تفكيكها، وتأجيج الأوضاع الاجتماعية فيها، والارتباط مع جهات أجنبية. كذلك تتعلق بمكافحة الفساد وتطهير البلاد، لاسيما المالي منه، حيث توجه لبعض الموقوفين مسؤولية الوقوف خلف الأزمات المتصلة بنقص الغذاء وتوزيع السلع، وارتفاع الأسعار في البلاد بهدف تأجيج الأوضاع الاجتماعية وتورط رجال أعمال بالتلاعب بالأسعار وتجفيف الموارد الغذائية الأساسية بالدولة لخلق فتنة اجتماعية (الحرة 15 فبراير، 2023). 

علاوة على ذلك يبرز التلاعب بملفات قضائية، وقضايا تتعلق بالإرهاب، حيث وجهت تهم لبعض القضاة الموقوفين بشأن إخفائهم ملفات لها علاقة بالقضايا الإرهابية، ولم يتم تقديم هؤلاء القضاة للمحاكمة سابقاً نتيجة خضوع القضاء سابقاً لهيمنة حركة النهضة ومن زرعتهم داخل المؤسسة القضائية". يضاف إلى ذلك ملف تسفير آلاف التونسيين إلى مناطق القتال حيث انضموا إلى جماعات إرهابية في سوريا والعراق، وهي ملفات تقول أوساط سياسية تونسية إن "حركة النهضة" متورطة بها الأمر الذي تنفيه الحركة (الحرة 15 فبراير، 2023). 

تؤكد السلطات التونسية أن الحملة تستهدف شخصيات بارزة وغير بارزة، سياسة وغير سياسية، غالبيتها لا تحمل مواقف معارضة للرئيس أو لمسار 25 يوليو الذي يقوده، ولا علاقة للحملة بتقييد حقوق تتعلق بالنشاط السياسي أو الحقوقي أو الإعلامي للأشخاص.  ما ينفي صفة تصفية الخصوم السياسيين الذين تتهم بهم المعارضة الرئيس سعيد، بالإضافة إلى تهم تتعلق بإهانة رئيس الدولة أو انتهاك مرسوم القانون المتعلق بمكافحة الجرائم الإلكترونية. لذلك يعتبر التيار الموالي للرئيس سعيد أن هذه التوقيفات مهمة، لأنها تدل على استرجاع الدولة لقوتها وهيبتها، وبدء مرحلة المحاسبة الحقيقية بعد انتهائها من استحقاقاتها الأساسية، ولاسيما وضع دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية جديدة. 

لذلك باتت أولوية الدولة الآن هي ضرب الفساد والفاسدين، وكل من يحاول تهديد أمنها واستقرارها، أو التعاون والتواصل مع جهات خارجية، ومحاسبتهم. خاصةً مع تورط العديد من السياسيين بملفات فساد لم يحاسبوا عليها سابقاً،  مثلما جرى في ملف الاغتيالات السياسية بعد توقيف القاضي المعزول البشير العكرمي الذي تتهمه هيئة الدفاع عن ضحايا الاغتيالات السياسية بعد الثورة، بالتستر على أدلة قدمتها ضد المورطين في الاغتيالات، كذلك يتهم أنصار الرئيس سعيد حركة النهضة الإخوانية بالوقوف وراء القوى المعارضة لقرارات الرئيس من أجل تأجيج الأوضاع الاجتماعية في هذا التوقيت الحساس بالذات. 

مبررات المعارضة: سارعت أحزاب المعارضة إلى إدانة حملة التوقيفات، والحديث عن صبغة وأهداف سياسية للرئيس سعيد من ورائها (حملة لتصفية الحسابات السياسية)، واتهامه بتناقض أفعاله مع تصريحاته التي يتحدث فيه عن الحفاظ على الحريات والحقوق التي تُعد مكسباً من مكاسب انتفاضة 14 يناير. وتسوق أحزاب المعارضة لتدعيم موقفها مبررات متعددة، أبرزها أن الرئيس سعيد يمر بمأزق يجعله يلجأ لمثل هذه الاعتقالات العشوائية التي تهدف إلى توجيه الأنظار عن الأزمات التي تعيشها البلاد على غرار الأزمة الاقتصادية والسياسية (اندبندنت عربي 13 فبراير). كذلك أنه يعمل على استهداف خصومه السياسيين وترهيبهم عبر إلصاق تهم تردي الأوضاع الاقتصادية بهم من أجل تأليب الرأي العام ضدهم وكسبه له. 

بالإضافة إلى ذلك يقوم الرئيس بخطوة استباقية لإجهاض مساع النقابات وأحزاب المعارضة تنظيم أنفسها في تيار واحد من أجل القيام بمبادرة سياسية لوضع حد للأزمة التي تضرب مختلف المجالات في البلاد. إذ كان "اتحاد الشغل"، الذي ينضوي تحت لوائه أكثر من مليون عامل، يستعد لإطلاق مبادرة للحوار الوطني لتجاوز المأزق السياسي بدعم من أحزاب المعارضة. الأمر الذي أثار استياء الرئيس سعيد الذي يبدو أنه غير متحمس لهذا النوع من التنسيق، لذلك عمل على استهدافه قبل انطلاقته. 

لذلك ترى المعارضة أن الرئيس استهداف قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، واتهمها بخدمة جماعات سياسية تحت لافتة الحوار، وعمل على تفكيك المركزية النقابية من الداخل لتفكيك صفوفها، وخنقها مالياً. الأمر الذي رفضه اتحاد الشغل، واعتبره بمثابة "إعلان حرب"، وبدأ بتنفيذ سلسلة إضرابات في قطاعات حيوية مثل النقل، وحشد أنصاره لمواجهة الرئيس. أما تيار الإخوان فأضاف إلى المبررات السابقة أن هذه الحملة تأتي في إطار احتكار قيس سعيد السلطة في البلاد، حيث اعتبر رياض الشعيبي المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة عدم وجود أي أسباب موضوعية لحملة الاعتقالات الأخيرة سوى تصفية الحسابات السياسية مع معارضيه ومنتقديه بهدف إسكاتهم، وترسيخ نظام ديكتاتوري، والتستر على الفشل في إدارة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة (الحرة، 15 فبراير، 2023). 

هذا الأمر دفعه، لإنقاذ الوضع، إلى انتهاج مسار تحريك الملفات القضائية، والقيام بنوع من الغربلة السياسية القضائية لفسح المجال وتمهيد الطريق لاستمرار النظام الحاليّ دون معارضة جدية. في حين اعتبر آخرون أن ما يجري من اعتقالات لا يعدو عن كونه "عمليات استعراضية" يقوم بها سعيد لاستعادة مناصريها بعد ثبوت تراجع شعبيتها في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

في الخلاصة:

 من خلال استعراض أبرز الأسماء التي طالتها حملة الاعتقالات من الواضح أنها تتركز على أشخاص منتمين لحزب النهضة الإخواني، أو تربطهم به علاقات وطيدة. بالإضافة إلى عدد قليل من الأسماء الذين لهم صفات نقابية وجهت لهم تهم فساد أو تآمر على أمن الدولة. ما يشير إلى أن الرئيس التونسي قد بدأ بشكل غير مباشر حملة تطهير لتيار الإخوان من مؤسسات الدولة. 

يبدو أن تونس أمام مرحلة غاية في الصعوبة، فحملة الاعتقالات التي يقوم بها الرئيس سعيد لن تؤدي إلا إلى مفاقمة الأزمة السياسية والاجتماعية في البلاد، حتى وإن كانت تحت شعار حماية البلاد ومكافحة الفساد والإخوان. حيث يبدو واضحاً أن تونس باتت أمام أخطار الفوضى والعنف في ظل استغلال الإخوان المسلمين عبر ذراعهم حزب النهضة لإجراءات سعيد وتوظيفها تحت عناوين قمع الحريات وتكميم الأفواه، وفشل السياسات الاقتصادية. وهو الأمر الذي يمكن لهم من خلاله تجييش الشارع التونسي ودفعه إلى مزيد من الاحتجاجات والتظاهرات التي يمكن لها أن تذهب لاحقاً باتجاه الفوضى والتمرد. بالتالي قطع الطريق، على الأرجح، على أي تهدئة للتصعيد السياسي الذي تشهده البلاد منذ بداية شهر فبراير الجاري. 

هذا الوضع قد يؤدي إلى تطورات متسارعة تقود باتجاه تصاعد بين الرئيس التونسي وقوى المعارضة، وقد تدفع أيضاً باتجاه عزلة دولية على تونس، أو بأقل تقدير خطر تذبذب علاقاتها وتوترها مع كبرى الدول في العالم. كذلك يبدو من الواضح أن تركيز الإخوان مؤخراً على تونس يأتي على خلفية خسارة أذرعهم في كل من المغرب المجاور والذي شهد خروج الإخوان من السلطة في الانتخابات التشريعية الأخيرة وخسارتهم للحكومة، وكذلك في مقرهم الأساس في مصر. وهذا ما يجعل من تونس مركز البقاء الأخير لهم في المنطقة. 

هذا الوضع سيدفع تنظيم الإخوان العالمي إلى دعم "حزب النهضة" في مواجهة السلطة التونسية، عبر تزعمه للحراك المعارض (لاسيما عبر اتحاد الشغل)، والمطالبة بعزل الرئيس، وتنظيم انتخابات رئاسية مبّكرة، واتهامه باستخدام السلطة القضائية لتصفية خصومه والتخلّص منهم، خاصةً وأنه من المستبعد أن تتوقف حملة سعيد ضد معارضيه السياسيين، فهدفه الأول تثبيت نظريته للحكم القائمة على أطروحة النظام القاعدي ومركزة كل السلطة بين يديه. كل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى استعادة حزب النهضة للشارع التونس، وربما محاولة القيام بـ "الانقلاب على الانقلاب" تمهيداً لعودة مأمولة له إلى السلطة في تونس. 


437