مقالات تحليلية

تفكك مجموعة الساحل ومستقبل الأمن ومكافحة الإرهاب في المنطقة

25-Dec-2023

 إن إعلان النيجر وبوركينافاسو في بيان أنهما قررتا "الانسحاب من كافة الهيئات التابعة لمجموعة دول الساحل الخمس بما في ذلك القوة المشتركة"، لم يشكل مفاجأة، لأن انسحاب مالي قبل سنة، كان مؤشراً حقيقياً على بداية تفكك المجموعة؛ حسب عدد من الخبراء، fr.7/6/2023) Lesechos). وهذا الإعلان جاء "بعد تقييم معمق للمجموعة وعملها"، بحيث "ما تزال بعد 9 سنوات تكافح من أجل تحقيق أهدافها"، كما أشار البيان إلى أن "الأسوأ من ذلك، أن الطموحات المشروعة لدولنا، لجعل منطقة الساحل منطقة أمن وتنمية، يتم إحباطها بسبب العبء المؤسسي، وأعباء من عصر آخر، تقنعنا بأن الطريق إلى الاستقلال والكرامة الذي تلتزم به اليوم، هو الطريق الصحيح، وهو ما يتعارض مع المشاركة في مجموعة الساحل بشكلها الحالي". (2023 - 12 - 25RT :).

ويبدو جلياً من البيان، أن انسحاب النيجر وبوركينافاسو من المجموعة، ليس رفضاً لمبدأ التكتل نفسه، وإنما لأسباب أخرى، وأهمها السياق الجيوسياسي الجديد، الذي يفرض التفكير في تحقيق الاستقلال عن التدخل الأجنبي وخصوصاً النفوذ الفرنسي، بالإضافة إلى التوغل الروسي في المنطقة الذي عمل على تشجيع العسكريين على التمرد على الغرب عامة وفرنسا خاصة.

لقد ارتبطت نشأة مجموعة الساحل، بالسياسة الفرنسية في المنطقة، بحيث تبنت الدولُ الخمسُ، المقاربة الأمنية الفرنسية؛ وتبين ذلك بشكل جلي منذ اجتماع وزراء داخلية المجموعة مع الوزير الفرنسي آنذاك برنار كازنوف في 21، مايو 2014، والذي شدد على أهمية التنسيق الأمني بين فرنسا ودول المجموعة، خصوصاً فيما يتعلق بمجال سياسة إدارة الحدود وقضايا الهجرة غير النظامية. كما صرحت الدول الخمس، في 19 نوفمبر 2014، بأن المقصد الأساس والمهم من تأسيس المجموعة، هو مكافحة الإرهاب؛ وكان ذلك متناسباً مع السياق الجيوسياسي الإقليمي، حيث اهتمام جل الدول الكبرى بمنطقة الساحل والصحراء، لأسباب أمنية واقتصادية، ولذلك حاولت "مجموعة 5" الاستفادة من الدعم والمساعدات الدولية. (مجلة الدفاع الإفريقي - 14- 2019).

من هنا، لم تعد أهداف تأسيس المجموعة هي تحسين مستوى عيش سكان المنطقة، وخلق فرص تنموية وتحقيق حكامة جيدة والوصول إلى تدبير ديمقراطي فعال، وإنما أصبحت الأولوية هي مواجهة الحركات الإرهابية والحد من تدفق المهاجرين إلى أوروبا، وهي سياسة أمنية كان الغرض منها حماية مصالح فرنسا والدول الكبرى، حيث التنافس الحاد، حول اليورانيوم في النيجر والحديد في موريتانيا والذهب في مالي، بالإضافة إلى البترول والغاز ومعادن مهمة أخرى وموارد طبيعية مثل الطاقة الشمسية. ومن الأسباب الأخرى لاستمرار الاهتمام الغربي بالمنطقة حسب المركز الأوروبي لدراسة مكافحة الإرهاب والاستخبارات "ثقل القارة السمراء في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تمثل فيها ثلث الأصوات؛ لأن 17 دولة من القارة شكلت 50% من الممتنعين عن التصويت على قرار يدين روسيا لحربها على أوكرانيا في مارس 2022". (منصة السياق، 3 - 9 - 2023).

لهذه الأسباب الجيواقتصادية، وعد آنذاك الاتحادُ الأوروبي، بتقديم مساعدة مالية تتجاوز 50 مليون أورو، (اللجنة الأوروبية، 2017/6/5). كما وعدت أمريكا بتقديم مساعدة مالية تقدر بحوالي 60 مليون دولار، هذا بالإضافة إلى الدعم الفرنسي الذي أعلنه الرئيسُ الفرنسي نفسُه، خلال الاجتماع الذي تم في باماكو بتاريخ 2 - 7 - 2017.

وقد صرح ماكرون آنذاك، بالدعم الفرنسي المهم، لبناء قوة عسكرية فعالة، للمشروع الذي أطلق عليه "التحالف من أجل الساحل"، وقال منبهاً أعضاء المجموعة: "لضمان دعم مستدام، عليكم وعلى جيوشكم أن تقتنع بأن مجموعة دول الساحل الخمس يمكن أن تكون فاعلة في نطاق احترام الاتفاقيات الإنسانية (...) يجب أن تكون هناك نتائج لإقناع شركائنا". (فرانس 24، 2 - 7 - 2017). وروجت الدبلوماسية الفرنسية، لخطاب مفاده، أن الدعم الفرنسي لإنشاء قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب في الساحل، والتزامها العسكري في المنطقة، هو أمر "يحمي أوروبا برمتها". (فرنسا 24، 2 - 7 - 2017). ولذلك عملت فرنسا على إقناع الاتحاد الأوروبي بالمشاركة، وخصوصاً ألمانيا وبلجيكا وهولندا، بالإضافة إلى طلب الدعم العسكري الأمريكي، من خلال تسيير طائرات بدون طيار مقرها في النيجر.

ولا يخفى على أحد أن تزُّعم فرنسا هذه المبادرة، وبالتالي تولي قيادة القوة المشتركة في الساحل، كان ترجمة لهواجس وتطلعات فرنسية في المنطقة وليس إسهاماً في تحقيق نهضة تنموية لدول الساحل. وأشار تقرير صادر عن الخارجية الفرنسية سنة 2019، إلى أن القوات الفرنسية، نجحت في نشر 5000 جندي، ودربت حوالي 7000 جندي إفريقي، ومولت 12 مشروعاً تنموياً ونفذت 750 عملاً قتالياً وتدريبياً، ولكن رغم ذلك كله، فالمقاربة الفرنسية لم تكن ناجحة وذلك لأنها فشلت في عملية "برخان" ودعمت سياسة "توريث" الحكم في التشاد، وتورطت في عمليات تهريب ونهب ثروات المنطقة. وقد أسهمت هذه العوامل وغيرها في ظهور حركات احتجاجية، تدعو إلى رحيل فرنسا، و"كانت من بينها (حركة يونامار في السينغال 2012)، و(حركة فرنسا ارحلي في بوركينافاسو 2017)، و(حركة فيلمبي في الكونغو 2014)، و(لينا في التشاد)، وغيرها من الحركات المطالبة بالمبدأ نفسه، وكانت تعلل مطالبها بأن الوجود الفرنسي يزيد الوضع تفاقماً بدليل انتشار القواعد العسكرية الفرنسية في عدة مناطق في الساحل". (رابعة نور الدين، مركز شاف، 19/12/2021).

لهذه الأسباب وغيرها، فإن إعلان النيجر وبوركينافاسو جاء مبرراً الانسحاب من المجموعة بأنه "لا يمكن لمجموعة الخمس في الساحل أن تقدم المصالح الأجنبية على حساب مصالح شعوب الساحل، ناهيك عن قبول إملاءات أمن قوة مهما كانت باسم شراكة مضللة وطفولية تُنكر حق سيادة شعوبنا ودولنا، ولذلك فقد تحملت بوركينافاسو والنيجر بكل وضوح المسؤولية التاريخية بالانسحاب من هذه المنطقة"، ورغم هذا الانسحاب فإن "الحكومتين الانتقاليين في بوركينافاسو والنيجر، الملتزمتين التزاما عميقاً بتحقيق السلام الدائم في منطقة الساحل، تظلان مقتنعتين بالحاجة إلى الالتزام بتوحيد دولنا في مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، وكذا من أجل التنمية". (وكالة الأناضول، 3 - 12 - 2023).

من المعلوم أنه قبل إعلان النيجر وبوركينافاسو، الانسحابَ من المجموعة، فقد صرح وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو، في 29 سبتمبر 2023، بأن انسحاب قوات بلاده من بوركينافاسو والنيجر ومالي، سيؤدي إلى انهيار منطقة الساحل، حيث إنه بمجرد تقديم هذه الدول طلبها بخروج القوات العسكرية الفرنسية، ارتفع مؤشر النشاط الإرهابي في المنطقة. ووجه تحذيراً من أن "مالي باتت على شفير التقسيم، والنيجر للأسف ستتبعها على المسار ذاته". مضيفاً: "هل يتم تحميلنا المسؤولية إذا كان بعض الأطراف المحليين يفضلون الصراعات العشائرية وازدراء الديمقراطية، بدلاً من مكافحة الإرهاب؟ لا أعتقد ذلك". (مونت كارلو، 30 - 9 - 2023). ورأى المحللون ذلك بمثابة تملص فرنسا من الاعتراف بالمسؤولية عن تداعيات سياستها في المنطقة. 

وتنقسم الآن مجموعة الساحل إلى محور منشق أو منسحب مكون من مالي وبوركينافاسو والنيجر، رافض لفرنسا بالأساس، وموالٍ لروسيا التي زاد نفوذها في المنطقة، ومحور مكون من التشاد وموريتانيا، ما زال متمسكاً بفرنسا، لكن ليس في استطاعته سوى إعلان تفكك مجموعة الساحل بعد انسحاب ثلاث دول مؤسِّسة.

محور النيجر وبوركينافاسو ومالي، وقع اتفاقاً للدفاع المشترك بتاريخ 16 سبتمبر 2023. وقال قائد المجموعة العسكرية الحاكمة في مالي، غوتيا، على منصة "إكس": "وقعت اليوم مع رئيسي دولتي بوركينافاسو والنيجر ميثاق ليبتاكو- غورما المُنشئ لتحالف دول الساحل والرامي إلى إنشاء هيكلية للدفاع والمساعدة المتبادلة لما فيه مصلحة شعوبنا". (فرنس 24، 21 - 9 -2023). كما أعلنت النيجر إنهاء التعاون الأمني مع أوروبا وإلغاء "قانون 2015" الذي وقعته مع الاتحاد الأوروبي للتصدي للهجرة غير النظامية، وكان يُعتقد أن النيجر هي الحليف الأهم للغرب في منطقة الساحل المضطربة. ووقّعت النيجر في الوقت نفسه اتفاقاً أمنياً مع روسيا مما أثار حفيظة الاتحاد الأوروبي وأنذر بتحول المنطقة إلى صراع حاد بينهما. (القدس، 5 ديسمبر2023).

ويبدو أن هذا التحالف الجديد، ليس فقط لمواجهة الجماعات الإرهابية، وإنما هو كذلك ردٌّ على تهديدات "الإيكواس"، التي كانت تفكر في التدخل العسكري في النيجر لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه. ورأى الوزير المالي عبد الله ديوب، أن هذا التحالف سيكون "مزيجاً من الجهود العسكرية والاقتصادية"، وهو كذلك محاولة لوضع سياسة تنسيق أمني وعسكري، للتصدي لمشكلة الخروج الفرنسي وقوات تاكوبا الأوروبية والبعثة الأممية من مالي، وكذلك توقف الجهود الفرنسية في مواجهة الحركات الإرهابية في بوركينافاسو والنيجر.

ودعا رئيس وزراء بوركينافاسو، خلال زيارته لمالي إلى إقامة اتحاد فيدرالي مرن، وقال: "يجب إنشاء الاتحاد الجديد الآن، قبل أن تعود السلطة إلى المدنيين، لأنه عندما يعود السياسيون سيكون الأمر صعباً". (الشرق الأوسط، 16 فبراير 2023). ويشكك الخبراء في جدية هذه الدعوة وبالتالي رأوا أنها مجرد مناورة ودعاية سياسية، وأن مشروع الاتحاد الفيدرالي غير قابل للتحقيق، لكن بالرغم من جميع العوائق المحتملة، فإن الدعوة إلى وحدة بين محور دول النيجر وبوركينافاسو ومالي، هي مشهد مستقبلي وارد في ظل سياق جيوسياسي جديد، من مصلحة روسيا دعمه ومساندته والعمل على جذب دول أخرى إليه. 

تضمن البيان المشترك لوزراء الخارجية الذي صدر في باماكو، دواعي إنشاء اتحاد كونفدرالي "إدراكاً للإمكانات الهائلة لتحقيق السلام والاستقرار والقوة الدبلوماسية والصعود الاقتصادي، التي يوفرها إنشاء تحالف سياسي معزز، وإن الوزراء مسترشدين بالطموح المتمثل في تحقيق اتحاد فيدرالي يجمع في نهاية المطاف بوركينافاسو ومالي والنيجر، يوصون قادة بلدان تحالف دول الساحل بإنشاء اتحاد كونفدرالي للدول الثلاث". (موقع الفكر، 3 - 12 - 2023).

ويرى بعض الخبراء أن المشروع يحتاج إلى مشروعية دستورية، لأن الحكومات الداعية إليه هي مجرد مجالس عسكرية انتقالية، كما أن المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، لن تقبل ذلك لأنه يتعارض مع أهدافها وسيكون سبباً لتفككها، كما أن هناك نزاعات حدودية سابقة بين مالي وبوركينافاسو، وكذلك بين غينيا ومالي. كما أن روسيا ليس بمقدورها بمفردها تقديم بديل متكامل عن أوروبا والغرب، وسيقتصر دورها على شراكة أمنية وعسكرية. (مركز الإمارات للسياسات، 28 مارس 2023).

ويعتقد خبراء "الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين" أن "هناك فرصة أمام عسكريي الساحل الجدد لتعزيز سلطتهم في بلدانهم استناداً إلى مؤشرات التقارب الواضح بين دول حزام الانقلابات التي دفعت إلى الاعتقاد باقتراب ظهور تحالف إقليمي جديد غير رسمي مناهض لإيكواس والغرب، وهو تحالف تفرضه السياقات الدولية والإقليمية الضاغطة عقب الانقلابات الأخيرة في المنطقة، ويمكن أن يحقق هذا التقارب أهداف العسكريين المتمثلة في الاستمرار في الحكم وتثبيت أركان سلطاتهم على الأقل في المدى القصير". (2023 - 9 - 13 apa-inter-com).

ويُلاحظ أن هناك شبه إجماع في الصحافة الفرنسية والغربية عامة، على مسؤولية فرنسا في تبني مقاربة فاشلة في مالي والمنطقة، وأنها مكنت روسيا من احتلال مكانها، مما يشكل تهديداً حقيقياً في المستقبل للنفوذ الغربي برمته في المنطقة. (Le monde 3-12-2023).

كما أن تفكك مجموعة الساحل، هو فشل جيوسياسي للأوروبيين وأمريكا معاً لأنها حليف لأوروبا في مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء. (fr ;7-12-2023.Lesechos). وأكدت مجموعة من الخبراء، عاملَ الأخطاء الدبلوماسية الفرنسية في منطقة الساحل في انتشار المشاعر الوطنية المعادية للحكومة المالية قبل الانقلاب واتساع نطاق الاحتجاجات في المنطقة ضد فرنسا، ودور روسيا في تأجيج الراي العام لتقويض مشروعية فرنسا وجيوشها ضمن إستراتيجية هجينة تتبناها موسكو في إفريقيا. (13-7-2022 Network for strategic analysis). كما تتجه التوقعات السياسية إلى تأكيد فقدان فرنسا منطقة الساحل رغم استمرار التشاد وموريتانيا تحت نفوذها. ومن المعلوم أن الاحتجاجات الشعبية ضد فشل حكومات الساحل كانت سياقاً مناسباً للعسكريين والانقلابيين، ومن المحتمل استمرار السخط الشعبي ضد الحكومات الفاسدة وكذلك ضد النفوذ الغربي في المنطقة. (org :1-2-2021. (crisisgroup.

ولهذا فإن محور التشاد وموريتانيا -بعد الانفلات من النفوذ الفرنسي بسبب عدوى الاحتجاج ضد فرنسا-، من المحتمل أن ينضم إلى "التحالف الفيدرالي" الهش الذي تطمح إليه الدول الثلاث المنسحبة. ولكن في المنظور القريب ليس هناك بديل حقيقي لمجموعة دول الساحل لبناء قوة مشتركة حقيقية وتكتل قوي لمواجهة كافة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية بمفردها، لذلك من الأرجح مستقبلاً أن تعود مالي والنيجر وبوركينافاسو إلى المنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا بعد صعود حكومات مدنية جديدة في دول الساحل، وستعمل الدول الغربية على تحقيق هذا المشهد لسد الطريق على روسيا والصين، مع دعم حقيقي لبناء حكومات نزيهة تبني سياسات تنموية فعالة، واعتماد نموذج للتعاون بدل الهيمنة والاستغلال. 


643