عندما وجه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، في خطاب له أمام النخب العلمية الإيرانية في حسينية الخميني في 17 أكتوبر 2023، تحذيرات مباشرة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من التداعيات الإقليمية التي يمكن أن تنجم عن استمرار الحرب في قطاع غزة واتساع نطاقها، كان لافتاً أنه كان يتحدث بجانب صور العلماء النوويين الإيرانيين، الذين اتهمت إيران جهاز "الموساد" الإسرائيلي بالمسؤولية عن اغتيالهم على مدى أعوام عديدة.
من دون شك، فإن المغزى كان واضحاً، ومفاده أن إيران لا تفصل بين الحرب الحالية في قطاع غزة، وبين الصراع متعدد المستويات الذي تتصاعد حدته مع إسرائيل. وبمعنى آخر، فإن إيران ترى أن العملية العسكرية التي شنتها كتائب القسام– الذراع العسكرية لحركة حماس الفلسطينية- في الأراضي الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023، لا تخلو من مكاسب، منها أنها مثّلت، في قسم منها، رداً على العمليات الاستخباراتية التي ترى إيران أن إسرائيل نجحت في تنفيذها داخل أراضيها.
وفي رؤية طهران، فإنه مثلما شكّلت تلك العمليات الاستخباراتية مؤشراً على وجود اختراق أمني واسع، سعت إيران إلى احتواءه عبر إجراء تغييرات في بعض الأجهزة الأمنية، مثل إقالة رئيس استخبارات الحرس الثوري حسين طائب، في 23 يونيو 2022 واستبداله بمحمد كاظمي (فرانس 24، 23 يونيو 2022)، فقد مثّلت عملية "طوفان الأقصى" بدورها مؤشراً على خلل أمني كبير عانت منه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
هذا الخلل الأمني بدا واضحاً في تقاذف الاتهامات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقادة أجهزة الاستخبارات، في 29 أكتوبر 2023، عندما كتب الأول تغريدة على منصة "إكس" قال فيها أن "تقارير أجهزة الاستخبارات كانت تشير إلى أن حركة حماس مردوعة إثر الحروب السابقة واتجهت نحو التسوية ولن تجرؤ على مهاجمة إسرائيل"، قبل أن يحذفها بسبب الضغوط التي تعرض لها، دون أن يعلن تحمله المسؤولية عما حدث (سكاى نيوز، 29 أكتوبر 2023).
كما أن عملية بهذا المستوى، وما تلاها من هجوم عسكري إسرائيلي واسع النطاق داخل قطاع غزة، سوف تعرقل، وفقاً لرؤية طهران، مسيرة اتفاقيات السلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية، والتي كانت إيران ترى أنها المستهدف الأول منها، باعتبار أن إسرائيل تحاول، طبقاً لذلك، الاقتراب من حدودها، من الغرب عبر تأسيس علاقات مع بعض الدول العربية، ومن الشرق عن طريق تطوير العلاقات مع بعض دول آسيا الوسطى مثل أذربيجان وتركمانستان.
اختبار صعب
مع ذلك، فإن هذا الترحيب الإيراني بعملية "طوفان الأقصى" والقراءة المبكرة لتداعياتها الإيجابية على مصالح طهران، لا تعني بالضرورة أن إيران كانت على علم بما سوف يحدث، رغم الدعم الواضح الذي تقدمه للفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، والتنسيق القائم بين الطرفين منذ تراجع مستوى التوتر بين طهران وحماس، على خلفية الموقف الذي تبنته في بداية الأزمة السورية، والذي لم يكن يتوافق مع حسابات الأولى.
بل لا يمكن استبعاد أن تكون حماس قد تعمدت مفاجئة حلفائها قبل خصومها بالمستوى الذي وصلت إليه العملية العسكرية التي شنتها في 7 أكتوبر 2023، وذلك تحسباً لاحتمال أن يؤدي ذلك إلى عرقلة العملية. إذ لا يوجد ما يضمن أن يوافق الحلفاء عليها ويدعمونها في ذلك، وخاصة إيران.
ويمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات ثلاثة رئيسية:
الاعتبار الأول، أن حسابات إيران لإدارة الصراع مع إسرائيل مختلفة عن حسابات حماس. فرغم اتساع نطاق الصراع بين طهران وتل أبيب، فإن الأولى كانت حريصة على ضبط إيقاع هذا الصراع وعدم الوصول به إلى مرحلة قد لا يمكن التعامل معها بالآليات نفسها التي يتم إتباعها حالياً.
صحيح أن إيران تعرضت لاختراق أمني مباشر استهدف منشآتها النووية والعسكرية وقادتها وعلماءها النوويين، فضلاً عن أن مواقعها داخل سوريا تهاجم باستمرار من قبل إسرائيل حتى مع انشغال الأخيرة بعمليتها العسكرية في قطاع غزة، إلا أن الصحيح أيضاً أن إيران كانت تتعامل مع ذلك بتصعيد محسوب لا يؤدي إلى انفلات الوضع ودخوله مرحلة من المواجهة المباشرة.
هذا التصعيد المحسوب كان يتم، على سبيل المثال، عبر مهاجمة مصالح إسرائيلية في المياه الدولية، على غرار الناقلات التابعة لرجال أعمال إسرائيليين، مثل الهجوم الذي استهدف ناقلة "استيرن باسيفيك شبينج" التي يملكها رجل الأعمال الإسرائيلي ايدان عوفر، قبالة سواحل عمان، في 16 نوفمبر 2022 (سويس انفو، 16 نوفمبر 2022).
كما كانت إيران تتعمد إبراز دعمها للفصائل الفلسطينية خلال الجولات المتتالية من التصعيد مع إسرائيل، على غرار حركة الجهاد الإسلامي، التي قام أمينها العام زياد النخالة بزيارة طهران ولقاء الرئيس إبراهيم رئيسي، في 18 يونيو 2023 (وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية "إرنا"، 19 يونيو 2023)، بعد نحو شهر من انتهاء المواجهة المسلحة مع إسرائيل بإبرام اتفاق وقف إطلاق نار في 13 مايو من العام نفسه.
لكن عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حماس قد تكون كفيلة بتغيير تلك الحسابات. إذ أنها دفعت إسرائيل إلى شن عملية عسكرية غير مسبوقة في قطاع غزة، تختلف تماماً عن كل جولات الصراع التي اندلعت في المرحلة الماضية، ولم تعد تل أبيب تستبعد، نتيجة المدى الذي وصلت إليه عملية "طوفان الأقصى"، أن تواجه أطرافاً أخرى سواء دول أو تنظيمات.
وهنا، فإن إيران تجد نفسها أمام خيارات صعبة. فإذا تركت حماس تواجه إسرائيل دون ظهير إقليمي قوي تستند إليه، فإن ذلك سوف يضع علامات استفهام عديدة أمام مدى قوة وتماسك ما تطلق عليه "محور المقاومة" الذي تقوده في المنطقة. وإذا قدمت لها دعماً مباشراً، فإنها تغامر بمواجهة المحظور لديها، وهو الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة قد لا تقتصر على إسرائيل، وإنما ربما تمتد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي نقلت دعماً عسكرياً نوعياً للأخيرة، وأرسلت حاملتي طائرات بالقرب من مسرح العمليات (صحيفة الشرق الأوسط، 15 أكتوبر 2023).
الاعتبار الثاني، أن توقيت شن عملية "طوفان الأقصى" لم يكن، في الغالب، مؤاتيا لإيران. فالأخيرة انتهت لتوها من صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية حول "تبادل السجناء" قضت بحصولها على 6 مليار دولار من أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية نظير صادراتها النفطية لسيول.
ويبدو أن إيران كانت تعول على هذه الصفقة لمواصلة التفاهمات مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. هذه التفاهمات بدت جلية في تطورات ثلاثة: أولها، انخفاض كمية اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة التي تمتلكها إيران بنحو 949 كيلوجرام، من 4744.5 كيلوجرام إلى 3795.5 كيلوجرام، حسب التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 4 سبتمبر 2023 (اندبندنت عربية، 4 سبتمبر 2023).
وثانيها، تراجع الهجمات العسكرية ضد القواعد الأمريكية في كل من العراق وسوريا خلال الشهور السابقة على عملية "طوفان الأقصى". وثالثها، ارتفاع مستوى الصادرات النفطية إلى 1.85 مليون برميل نفط يومياً، حسب بيانات موقع "تانكر تراكرز"، في 31 أغسطس 2023 (إذاعة طهران العربية، 5 سبتمبر 2023)، وهو تطور لم يكن يحدث إلا في ضوء تغاضي واشنطن عن جهود طهران في الالتفاف على العقوبات الأمريكية.
وهنا، فإن عملية "طوفان الأقصى" يمكن أن تعرقل هذه التفاهمات. ففضلاً عن ما فرضته من توتر في العلاقات بين طهران وواشنطن، خاصة بعد أن تزايدت الهجمات التي تعرضت لها قواعد الأخيرة في العراق وسوريا، على نحو دفعها إلى توجيه ضربات ضد موقعين تابعين للحرس الثوري في البوكمال، في 27 أكتوبر 2023 (بي بي سي، 28 أكتوبر 2023)، فإنها قد تكون كفيلة بعرقلة إتمام صفقة تبادل السجناء.
إذ تم تنفيذ الشق الأول من هذه الصفقة، في 18 سبتمبر 2023، بالإفراج عن خمسة سجناء أمريكيين لدى إيران مقابل إطلاق سراح خمسة سجناء إيرانيين لدى الولايات المتحدة الأمريكية (سي إن إن، 18 سبتمبر 2023)، فيما ما زال الشق الثاني قيد التنفيذ، والخاص بحصول إيران على المليارات الستة المستحقة لدى كوريا الجنوبية والمجمدة بمقتضى العقوبات الأمريكية.
وفي هذا السياق، ظهرت دعوات أمريكية متعددة بضرورة منع إيران من الوصول إلى هذه الأموال، بل إن الأخيرة تعرضت لاتهامات جديدة بأنها استخدمت هذه الأموال في دعم حماس قبل شن عمليتها داخل إسرائيل، وهو ما نفاه المسؤولون الأمريكيون الذين أكدوا أن إيران لم تحصل بعد على تلك الأموال، ووصل الأمر إلى حد تأكيد وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن خلال زيارته لإسرائيل، في 12 أكتوبر 2023، على أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بالحق في تجميد هذه الأموال (روسيا اليوم، 12 أكتوبر 2023).
ومن دون شك، فإن إقدام واشنطن على إعاقة وصول طهران إلى هذه الأموال، أو حتى مواصلة التهديد بذلك، يمكن أن يهدر كل الجهود التي بذلتها إيران لضبط حدود التصعيد معها، وسيضطرها من جديد إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الكفيلة برفع مستوى أنشطتها النووية، وهو خيار كانت ترى أنه مؤجل إلى حين استشراف ما سوف تؤول إليه الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجرى في عام 2024، والتي كانت تعول على نتائجها لتقييم مدى إمكانية الوصول إلى صفقة نووية جديدة من عدمه.
والاعتبار الثالث، أن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل قطاع غزة يفرض ضغوطاً قوية على حلفائها من أجل التدخل، ولا سيما حزب الله اللبناني. وقد بدا ذلك واضحاً في الرسائل المتعددة التي سعت حماس، والفصائل الفلسطينية الأخرى، إلى توجيهها للحزب من أجل رفع مستوى انخراطه الحالي في التصعيد مع إسرائيل.
ويأتي اللقاء الذي جمع الأمين العام للحزب حسن نصر الله والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، في 25 أكتوبر 2023، في هذا السياق (سكاي نيوز، 25 أكتوبر 2023).
ورغم أن العنوان المعلن للقاء كان التنسيق حول تطورات المواجهة العسكرية مع إسرائيل في غزة، فإنه لا يمكن استبعاد أن يكون اللقاء محاولة جديدة من جانب حماس لدفع الحزب لتوسيع نطاق تصعيده الحالي مع إسرائيل بهدف تخفيف الضغط عليها في القطاع.
لكن لا يبدو أن الحزب في وارد أن يتخذ خطوة يرى أنها غير محسوبة في هذا الصدد، لاعتبارات ترتبط بحساباته الداخلية والإقليمية. صحيح أنه انخرط في تصعيد محدود مع إسرائيل أسفر عن مقتل 47 من عناصره، لكنه حتى الآن ما زال حريصاً على عدم خروج هذا التصعيد عن النطاق الذي تسمح به هذه الحسابات.
وهنا، فإن إيران تبدو بدورها أقرب إلى موقف الحزب. إذ أنها لا تفضل إقدام الأخير على الاستجابة لمطالب، وربما ضغوط، حماس. وفي رؤية طهران، فإن أهمية الحزب بالنسبة لها تفوق بكثير أهمية حماس. ولا يعود ذلك إلى هوية الحزب كمليشيا شيعية فحسب، بل يعود أيضاً إلى موقع الحزب في الأجندة الإقليمية لإيران، حيث يعتبر بمثابة "درة التاج" في المشروع الإقليمي الإيراني برمته ولا يمكن الاستعاضة عنه أو المغامرة بدفعه في مواجهة غير محسوبة على هذا النحو.
على ضوء تلك الاعتبارات، يمكن القول إن إيران ترى حالياً أن الخيار الذي يتوافق مع مصالحها بشكل أكبر هو العمل على إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في أسرع وقت. إذ أن ذلك ليس كفيلاً فقط بمنع تل أبيب من تحقيق هدفها المعلن، وهو القضاء على حكم حركة حماس- وهو هدف صعب التحقق في كل الأحوال- وإنما أيضاً بتراجع حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران وحلفائها من أجل التدخل في المواجهة الحالية، في زمان ومكان غير مؤاتين بالنسبة لحساباتها.