من المحتمل أن وثائق البنتاغون التي سربت مؤخرا قد سربت عن قصد كما أشار نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، الذي قال أن "التسريب قد يكون حيلة أميركية من أجل التضليل...بما أن الولايات المتحدة طرف في الصراع وتشن بشكل أساسي حربا هجينة ضدنا، فمن المحتمل أن يتم استخدام مثل هذه الأساليب لخداع خصمهم، الاتحاد الروسي" (الغارديان، 13 أبريل 2023). لكن مدلولات هذه التسريبات تتجاوز مسألة حقيقة التلاعب الأميركي من زيفها، فهي تحمل في طياتها الإشارات التي تنقسم بين رسائل إلى الأطراف الضالعة في الحرب الروسية الأوكرانية ومؤشرات حول مجريات الأحداث التالية، أي مرحلة ما بعد التسريبات. وبحسب مضمون التسريبات، فإنها تبين أنواع الأطراف المؤثرة في الحرب وفق تقسيم وتسمية أميركيتين.
فالوثائق تقسّم الدول التي طلبت أوكرانيا منها المساعدة إلى أربع فئات: الدول التي التزمت بتوفير التدريب والأسلحة الفتاكة؛ والدول التي قدمت بالفعل التدريب أو الأسلحة الفتاكة أو كليهما؛ والدول التي لديها القدرة العسكرية والإرادة السياسية لتقديم مساعدات فتاكة في المستقبل؛ ومن بين الدول التي قالت لا للمساعدات كانت النمسا ومالطا في الفئات الأربع (رويترز، 12 أبريل 2023). كما أن التسريبات انطوت على طرح قديم جديد وهو الهجوم الأوكراني المضاد لغاية استعادة الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها روسيا في أوكرانيا. في ضوء ما سبق، سنحاول فهم مضامين التسريبات وتأثيراتها على مستقبل النزاع الروسي الأوكراني.
من الزاوية الروسية سننطلق لفهم حجم التسريبات، فعلى الرغم من أن ريابكوف حاول ألا يعطي أهمية لهذه التسريبات بقوله أنها قد تكون حيلة أميركية، إلا أنّ روسيا ستأخذ موضوع التسريبات بجدية، لا سيما وأنها كانت في السابق قد طلبت توضيحا من بلغراد حول تزويد أوكرانيا بالسلاح. علاقة هذا الطلب بالتسريبات تتمثّل في أن التسريبات تقول بدعم صربيا لأوكرانيا بالسلاح، بينما تقول هي بحيادها في الصراع القائم. وهذا يعني أنّ الشكوك الروسيّة السابقة حول دعم بلغراد لكييف بالسلاح تؤكدها وثائق اليوم. بينما يرفض وزير الدفاع الصربي ميلوس فوسيفيتش تأكيدات الوثائق ويصفها بأنها "غير صحيحة"، ويقول إن "صربيا لم ولن تبيع أسلحة إلى الجانب الأوكراني أو الروسي أو للدول المحيطة بهذا الصراع... وأنه من الواضح أن هناك من يريد جر صربيا إلى ذلك الصراع"، إلا أنّ يانوش بوغاجسكي، الخبير في مسائل أوروبا الشرقية في مؤسسة جيمس تاون يقول أنه "إذا كانت هذه الوثيقة دقيقة، فإنها إما تُظهر ازدواج فوسيتش تجاه روسيا أو أنه يتعرض لضغوط هائلة من واشنطن لتسليم أسلحة إلى أوكرانيا" (رويترز، 12 أبريل 2023).
مقابل الموقف الروسي، تقوم الحكومة الأوكرانية بتقييم الضرر المحتمل من عمليات الكشف عن الوثائق. تقدم الملفات تفاصيل عن 12 لواءا تم تشكيله حديثا، ومجهزة بدبابات قتال غربية وعربات مصفحة، التي من المرجح أن تقود الهجوم على المواقع الروسية. ما يهم في الموقف الأوكراني، ليس فقط الجانب المتعلّق بموقف الدول المساهمة في النزاع من حيث الاستجابة لنداء كييف، ولكن من حيث تأثير هذه التسريبات على الهجوم المضاد الذي يحكى عنه من قبل خروج الوثائق إلى العلن. ففي حين تقلل الوثائق من قدرة القوات الأوكرانية على استعادة الأراضي من روسيا، إلا أن الحديث بالأرقام عن الروسية والأوكرانية وتبيان الأفضلية في ذلك لصالح أوكرانيا يعطي دفعة معنوية للقيادة والقوات الأوكرانية للمضي قدما في خطة الهجوم المضاد. كما يمكن القول أن هذا الجانب من التسريبات يفيد بإعطاء دافع قوي للدول الأوروبية بزيادة الدعم العسكري والاستخباري لأوكرانيا في هجومها المضاد المتوقع في الفترة المقبلة عسى أن يكون هذا الهجوم فعالا، فيصبح التفاوض ناضجا.
في جانب الهجوم المضاد، ثمة سيناريوهين لهذا الهجوم: الأوّل، ويقول بشن هجوم جنوب البلاد؛ والثاني، ويقول بهجوم في شرق البلاد. في هذا السياق، يشير مسؤول أوكراني (الغارديان، 13 أبريل 2023) إلى أنه "من السابق لأوانه القول ما إذا كان التسريب سيؤثر على التخطيط للهجوم المضاد الأوكراني، الذي بلغ الآن مرحلة متقدمة. ومن المتوقع على نطاق واسع أن يقع الهجوم في جنوب البلاد، وربما في الشرق أيضا. هدف أوكرانيا هو كسر الممر البري الذي يربط شبه جزيرة القرم بمقاطعة دونيتسك وطرد الروس من مدينة ميليتوبول المحتلة وميناء بيرديانسك" (الغارديان، 13 أبريل 2023).
تخشى أوكرانيا أن سيطرة روسيا على باخموت قد تسمح السيطرة لها باستهداف الخطوط الدفاعية الأوكرانية مباشرة في تشاسيف يار وفتح الطريق لقواتها للتقدم في مدينتين أكبر في منطقة دونيتسك - كراماتورسك وسلوفيانسك. من هنا، يمكن فهم طبيعة الهجوم المضاد، الذي تتوقع له الوثيقة المسربة نجاحا متواضعا، حيث إن استراتيجية كييف تدور حول استعادة المناطق المتنازع عليها في الشرق بينما تتجه جنوبا في محاولة لقطع الجسر البري الروسي المؤدي إلى شبه جزيرة القرم، التي تستخدم الآن كإمداد طريق للقوات الروسية داخل أوكرانيا. إلا أن قوة الدفاعات الروسية الراسخة إلى جانب أوجه القصور الأوكرانية في التدريب وإمدادات الذخيرة من المحتمل أن تؤدي إلى إجهاد التقدم وتفاقم الخسائر أثناء الهجوم. هذا ما يتوقعه الأميركيون، إذ يقول مسؤولون أميركيون "إن احتمالات التوصل إلى نتيجة متواضعة في هجوم الربيع تعززت في تقييم سري أجراه مجلس المخابرات الوطني".
وجد هذا التقييم، الذي تم اطلاعه مؤخرا على مجموعة مختارة من الأشخاص في مبنى الكابيتول هيل أنه من غير المرجح أن تستعيد أوكرانيا أكبر قدر من الأراضي كما فعلت كييف في الخريف الماضي في الاختراقات لأوكرانيا في الشرق والجنوب (واشنطن بوست، 10 أبريل 2023). وعليه، في الأسابيع التي تلت صياغة الوثيقة المسربة، أجرى الأميركيون محادثات مع الأوكرانيين لملاءمة طموحات كييف في هجومها المضاد مع قدراتها. وعلى هذا الأساس، قيم الأميركيون الوضع، وأجروا تقييما على الطاولة مع قادة عسكريين أوكرانيين لإظهار كيف يمكن أن تحدث سيناريوهات هجومية مختلفة، وعواقب انتشار القوات بشكل ضئيل للغاية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تمديد خطوط الإمداد بعيدا، ما يجعل من الصعب الاحتفاظ بالأراضي المستعادة أثناء محاولة التوغل أكثر في المناطق المحتلة.
في جانب مساوق، لم يشكك مسؤول أوكراني كبير في ما تم الكشف عنه، وأشار إلى التراكم اللوجستي الذي أدى إلى إبطاء عمليات التسليم الموعودة للمساعدات الغربية. قال المسؤول: "هذا صحيح جزئيا، لكن الجزء الأكثر أهمية هو تأخير تسليم الأنظمة التي وعدنا بها بالفعل، مما يؤخر تدريب الألوية المشكلة حديثا والهجوم المضاد ككل". قال مسؤول أوكراني آخر "إن الوثائق المسربة من غير المرجح أن تضر بالهجوم المضاد المخطط له، الجميع يعرف أن ذخيرتنا منخفضة - الرئيس ووزير الدفاع يتحدثان عن ذلك علانية، وكان من الواضح منذ نوفمبر أن الهجوم المضاد القادم سيركز على الجنوب، أولا ميليتوبول ثم بيرديانسك".
بعد الحديث عن المواقف الروسية والأوكرانية والأميركية من التسريبات يتبين لنا أن التسريبات تفيد بتصعيد عسكري في الحرب القائمة من جانب الولايات المتحدة، التي تحاول أن تشحذ همم القيادة والقوات الأميركية من جهة والدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا من جهة أخرى. ما يريده الأميركيون من هذا التصعيد اختبار قدرة القوات الأوكرانية في الهجوم المضاد الذي يرمي إلى استعادة الأراضي الأوكرانية من القوات الروسية. وعليه، فإن قدرة القوات الأوكرانية على استعادة الأراضي ستحدد الموقف الأميركي من التفاوض مع روسيا أو دفع أوكرانيا إلى التفاوض معها، وعندها تفتح أبواب المفاوضات. إلا أن الأميركيين لم يبدوا تفاؤلا كبيرا حيال فرص نجاح الهجوم المضاد، ما يعني أنهم يقولون لأوكرانيا أن تكون واقعية في حالة عدم نجاحه، الرضا بنتائجه، أي الذهاب بخيار التفاوض قابلة بسيطرة روسيا على أراض أوكرانية. أما من الجانب الروسي، فهم يعلمون بالخطة الأميركية، ويتابعونها بدقة، ويتجهزون لإفشالها، وعلى هذا الأساس يحضرون للمفاوضات القادمة.