ضربات صاروخية من قاذفات استراتيجية هي الأعنف منذ بداية العملية العسكرية الروسية تعرضت لها كييف. وأكدت وزارة الدفاع الأوكرانية في بيان لها على موقعها الرسمي، 10 أكتوبر الجاري، أن الضربات انطلقت من بحر قزوين والبحر الأسود والمناطق المحيطة بهما، بالإضافة إلى أراضي بيلاروسيا التي انطلقت منها طائرات مسيرة أغلبها من طراز "شهيد 136" الإيرانية.
في مقابلة تلفزيونية مع فاديم سكيبيتسكي المتحدث باسم الاستخبارات العسكرية الأوكرانية في برنامج "At Gunpoint" الأوكراني، ذكر أنه يرى إجراءات اتخذها الاتحاد الروسي لحث قيادة بيلاروسيا على الدخول في حرب مفتوحة مع بلاده. وأن اجتماعات تعقد بين بوتين والرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو باستمرار لمناقشة هذه المسألة.
ووفقاً لبيان منشور على الموقع الرسمي للاستخبارات العسكرية الأوكرانية "DIU" في 8 أكتوبر الجاري، تتمركز ست كتائب من القوات المحمولة جواً تابعة لقيادة قوات العمليات الخاصة البيلاروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية. وقد أقر الرئيس البيلاروسي في اجتماعه مع قادة الأمن أنه أمر بنشر قوات مساندة للقوات الروسية بالقرب من أوكرانيا رداً على ما قال إنه تهديد واضح لبيلاروسيا من كييف وداعميها في الغرب، وأنه تقرر إنشاء قوة إقليمية مشتركة للدفاع عن حدود بلاده إذا لزم الأمر. على الرغم من أنه، حسب تصريحاته التي نقلتها وكالة الأنباء البيلاروسية "بيلتا" في 2 يوليو الماضي، نفى تماماً وجود أي قوات بيلاروسية تحارب إلى جانب موسكو، ومن الواضح أنه تصعيد إضافي، يعطينا احتمالاً بإمكانية المشاركة الفاعلة لبيلاروسيا في الحرب خلال المرحلة المقبلة.
اتهامات متبادلة
ذكر لوكاشينكو في اجتماعه الأمني الأخير الذي أذاعته وكالة "بيلتا" ونقلته قناة "فرانس 24" يوم الاثنين 10 أكتوبر، أنه تم إرسال تحذير إلى بلاده عبر قنوات "غير رسمية" مفاده أن أوكرانيا تخطط لإنشاء "جسر القرم 2". واتهم أوكرانيا بأنها تخطط لشن ضربات انتقامية ضد بيلاروسيا. وأنه يستعد لذلك منذ عقود "إذا لزم الأمر، سنرد".
الثابت أن لوكاشينكو اتهم أوكرانيا أكثر من مرة بشن هجمات ضد بيلاروسيا، كان أبرزها ما نشرته "BBC" في 2 يوليو الماضي عن اتهامه لكييف بمحاولة قصف منشآت عسكرية في بلاده، وأن أنظمة "بانتسير" المضادة للطائرات تمكنت من اعتراض جميع الصواريخ الأوكرانية.
وبسبب انعقاد اجتماع طارئ لدول مجموعة السبع، الثلاثاء 11 أكتوبر، لمناقشة أمر تدخل بيلاروسيا في العملية العسكرية الروسية، شدد وزير الدفاع البيلاروسي فيكتور خرينين في تسجيل فيديو أذاعته وكالة "بيلتا" على أن مهام مجموعة القوى الإقليمية دفاعية محضة. وجميع الأنشطة التي تجري حالياً هدفها توفير رد كاف على التحركات قرب حدود بلاده التي لا تريد قتالاً.
واتهمت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا عبر قناة "فرانس انتير" صباح الثلاثاء بيلاروسيا بأنها تدخلت في المعركة الدائرة بشكل واضح، وأنه من الأفضل عليها إنهاء هذا التدخل، لأن أي دعم إضافي لروسيا سيؤدي إلى فرض عقوبات جديدة على بيلاروسيا التي تخضع بالفعل لعقوبات.
ولكن ما مدى مشاركة بيلاروسيا في هذا الصراع العسكري؟
في المراحل الأولى من الصراع سمحت بيلاروسيا باستخدام الروس أراضيها المتاخمة للحدود الأوكرانية، ولكن لا توجد أي شواهد على إرسالها أي جنود لمؤازرة القوات الروسية، إلا من بعض التقارير التي لا تستند إلى أي دليل. لكن موقع "مجلس الأطلسي" نشر في 24 فبراير 2022 تحت عنوان "بيلاروسيا تنضم إلى الصراع ضد أوكرانيا" ما يفيد بأنه تم السماح للمنشآت العسكرية البيلاروسية بإطلاق النار من أراضيها باتجاه جارتها الجنوبية، وأن منسك أطلقت صواريخ بالستية باتجاه أوكرانيا.
في 26 فبراير نشرت "رويترز" بعص الصور بالأقمار الصناعية تظهر تمركز 150 مروحية ومئات المركبات الأرضية بالقرب من بلدة خوينيكي التي تقع بالقرب من الحدود الأوكرانية، وأفاد المركز الأوكراني للاتصالات الاستراتيجية بأن مطار جيتومير الدولي تعرض للقصف بصواريخ أطلقت من أراضي بيلاروسيا.
وجاءت تصريحات مسؤول عسكري أوكراني أثناء حديثه مع محطة الإذاعة العامة الأوكرانية في 27 فبراير أن بعض الجنود البيلاروسيين شوهدوا في المنطقة الواقعة في أقصى شمال أوكرانيا، لتزيد التحفز الأوكراني تجاه بيلاروسيا شدة. ومع ذلك، لم يتمكن مكتب الرئيس الأوكراني من تأكيد التقارير.
وقد نفى الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو في البداية تورط الجيش البيلاروسي في النزاع في ذلك الوقت، ولم تعلق وزارة الدفاع البيلاروسية على أي تقارير تزعم ذلك، أو تعترف بأن بعض الصواريخ أطلقت من بيلاروسيا نحو أهداف أوكرانية. لكنه أعلن بعد ذلك أن روسيا أطلقت قذائف من بيلاروسيا ضد أوكرانيا، لكنه لم يأمر القوات البيلاروسية بمشاركة الروس في معركتهم، وبالرغم من ذلك فقد قرر نقل وحدات من قواته العسكرية إلى الحدود الأوكرانية في 1 مارس 2022 بغرض وقائي محض.
والطريف أن الجنود الروس الذين عادوا إلى بيلاروسيا حاولوا بيع البضائع المنهوبة من أوكرانيا، وقد سمحت حكومة لوكاشينكو بذلك. وقد أفادت المخابرات الأوكرانية في 2 إبريل 2022 بأن الجنود الروس قاموا بإنشاء متجر في ناروليا لبيع البضائع المنهوبة، وأكد ذلك ما أذاعته قناة "Belsat" البيلاروسية، حيث بثت مقاطع فيديو في 4 إبريل لجنود روس أثناء قيامهم بإعداد وثائق لإرسال كمية كبيرة من البضائع الأوكرانية إلى روسيا عبر الأراضي البيلاروسية.
وانتهت كافة محاولات منسك لنفي تدخلها بشكل مباشر في 10 أكتوبر، حيث أمر لوكاشينكو قوات بلاده بالانضمام إلى القوات الروسية بالقرب من أوكرانيا، مدعياً أن كييف تشكل تهديداً واضحاً، وقال: "إذا لمسوا متراً واحداً من أراضينا، فإن جسر القرم سيبدو لهم وكأنه نزهة".
تداعيات تمدد الحرب إلى منسك
بالرغم من أن أي تدخل متحيز من أي دولة لأي طرف سيعقد الصراع ويطيل أمده، لكننا نعتقد أن لوكاشينكو يبدي ردة فعل طبيعية تجاه ما حدث من كييف، التي يتهمها بقصف معظم الجسور التي تربط بيلاروسيا بأوكرانيا، فكان سلوكه انتقامياً أكثر من إيمانه بأهداف روسيا، خاصة وهو يعرف جيداً أن كييف تحمل نفس المشاعر الأوروبية تجاه بلاده، حيث لا تعترف أية دولة أوروبية بنظامه بعد أن تلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية أكثر من مرة، ومارس حكماً استبدادياً في قارة تتمتع بنظام ديمقراطي.
لوكاشينكو أغضب الاتحاد الأوروبي حينما تعامل بصورة سيئة مع جائحة "كورونا" فضلاً عن تزييفه العلني للانتخابات الرئاسية عام 2020، واعتقاله مرشحي المعارضة، مما أشعل أكبر موجة تظاهرات شعبية في بيلاروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. ألقى خلالها القبض على ما يقرب من 7 آلاف شخص، ونفى العديد من زعماء المعارضة، ورفض النداءات الأوروبية بإجراء انتخابات جديدة، ووصف المتظاهرين بأنهم "فئران" تسيطر عليها جهات أجنبية.
وبطبيعة الحال، كان عليه إزاء التصعيد المستمر من قبل روسيا من جانب، وأوكرانيا و"الناتو" من جانب آخر، أن يتحيز للطرف الذي يعتبره حليفه التاريخي منذ عهد الاتحاد السوفيتي، حتى إذا ما احتدم الأمر وازدادت وتيرة القتال وتوسعت، ضمن لبلاده الحليف الأقوى في المعادلة من وجهة نظره.
ومن أهم التداعيات المحتملة لهذا التدخل أنه ربما يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى توسيع رقعة تحالفاته بعد أن شاهد ردة الفعل الغربية تجاه تدخل بيلاروسيا، ولكن في المقابل سوف يؤدي ذلك إلى ازدياد عناد الدول المتحالفة والمتعاطفة مع أوكرانيا، والتي يمكنها تكوين كتلة داعمة ضخمة ستطيل أمد الصراع. فعلى سبيل المثال أعلن وزير الدفاع الأسترالي ريتشارد مارليس أنه يمكن إرسال قواته إلى أوكرانيا للمساعدة في تدريب القوات المسلحة في البلاد في أعقاب الهجوم الروسي على كييف. وصرح لشبكة "سكاي نيوز" عقب متابعته لأخبار القصف الروسي قائلاً: "نحن بحاجة إلى التأكد من أننا ندعم أوكرانيا على المدى الطويل حتى نضعها في موقف يمكنها فيه بالفعل حل هذا الصراع وإنهاؤه بشروطها الخاصة".
كذلك ستستمر الولايات المتحدة الأمريكية في محاولات شيطنة روسيا وإظهارها كدولة تسعى إلى شن حرب عالمية جديدة، واستخدام فزاعة السلاح النووي كورقة ضغط على المجتمع الدولي. حيث قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في بيان نشره موقع "GNT News" في 11 أكتوبر، إن الولايات المتحدة وحلفاءها سيواصلون فرض عقوبات على روسيا، ومحاسبة بوتين على جرائم الحرب التي ارتكبها، وتقديم الدعم اللازم للقوات الأوكرانية للدفاع عن بلادها وحريتها. وفي خطوة تصعيدية أخبر زيلينسكي في مكالمة هاتفية أن الولايات المتحدة وافقت على طلبه توفير أنظمة دفاع جوي متطورة، وهو بذلك يطيل أمد الصراع العسكري ولا يقدم أي حلول.
كما أن المزيد من تدخل منسك في العملية العسكرية الروسية بهذا الشكل يمكنه إعادة تشكيل خط المعارك، مما يصعب الأمر على كييف. فبيلاروسيا الأقرب إلى أوكرانيا، وتحالفها العلني، وحتى لو اقتصر على تسهيل عبور القوات الروسية، يهدد العاصمة الأوكرانية ويسهل إسقاط النظام الأوكراني برمته، مما سيجبر الدول الغربية على تشكيل تحالفات أكثر وضوحاً لدعم أوكرانيا مما يوسع رقعة الصراع فتمتد إلى دول مجاورة.
على أي حال، وبرغم تسخيره كافة إمكانات بلاده لخدمة روسيا، فمن الواضح أن لوكاشينكو يرغب "فقط" وعلى الأقل في الوقت الحالي، في إظهار الولاء لبوتين، خاصة وأن التيار المعارض لسياساته داخل بيلاروسيا قوي، ولا يستطيع أن يورط نفسه في الصراع العسكري الروسي الأوكراني، ويعرض نفسه لتوترات سياسية داخلية، وربما تتطور ضده إلى تمرد عسكري.