فجر الأربعاء 20 نوفمبر الجاري، أعلنت روسيا أن أوكرانيا أطلقت صواريخ أمريكية بعيدة المدى على أراضيها في هجوم يعد الأول من نوعه منذ بدء الحرب قبل ألف يوم، وهددت موسكو مجدداً باستخدام أسلحة نووية رداً على ذلك. وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن الضربات الأوكرانية على روسيا بصواريخ بعيدة المدى تشكل "مرحلة جديدة" في النزاع، متوعداً برد "مناسب".
وقد أتت مواقف روسيا بعدما أجازت
الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها برئاسة جو بايدن لأوكرانيا إطلاق صواريخ بعيدة
المدى سلمتها إياها من نوع "أتاكمس ATACMS" نحو عمق الأراضي الروسية، وهو ما يشكل خطاً أحمرَ بالنسبة لموسكو.
قرار مثير للجدل
اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية،
قراراً يعد الأبرز والأهم خلال الأيام الماضية، وذلك فيما يتعلق بسياستها تجاه
الحرب الروسية الأوكرانية، حيث سمحت واشنطن لكييف باستخدام صواريخ أتاكمس بعيدة
المدى، وإطلاقها نحو عمق الأراضي الروسية، وهذا ما رآه مراقبون تطوراً بالغَ
الأهمية في السياسة الخارجية الأمريكية.
وبعد أشهر من النقاش والتردد، أعطى الرئيس الأمريكي جو بايدن أخيراً لأوكرانيا ضوءاً أخضرَ لتنفيذ ضربات بعيدة المدى داخل روسيا باستخدام أسلحة زودتها بها الولايات المتحدة. ووفقاً للتقارير، فقد أذن بايدن في البداية بشن ضربات في منطقة كورسك الروسية، حيث سيطرت أوكرانيا على مئات الكيلومترات المربعة من الأراضي منذ صيف عام 2024 لكنها تواجه الآن هجوماً مضاداً.
محفزات ودوافع القرار الأمريكي
سعت كييف خلال الأعوام الماضية لإقناع
واشنطن للحصول على إذن باستخدام الصواريخ بعيدة المدى لبعض الوقت، لكن دائماً كانت
إدارة بايدن مترددة بسبب تخوفها من أن يتسبب ذلك بزيادة وتيرة الصراع الذي اقترب
خلال الأعوام والأشهر الماضية من مراحل خطِرة هددت فيها موسكو بإمكانية الصدام
المباشر مع الغرب وصولاً إلى التهديد باستخدام الأسلحة النووية، لكن هذه الخطوة
يمكن أن تعبر عن تغير في السياسة الأمريكية وطريقة تعاطي واشنطن مع الحرب في
أوكرانيا.
ومن أبرز الأسباب الظاهرية لهذه
الخطوة الأمريكية، الحديث عن مشاركة قوات برية تابعة لكوريا الشمالية في الحرب إلى
جانب روسيا، وهذا ما أثار اهتمام وانزعاج الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تبددت الشكوك حول ذلك مؤخراً
عندما أكدت كييف أن الجنود الكوريين الشماليين شاركوا بالفعل في القتال ضد القوات
الأوكرانية في كورسك، وقدرت مصادر لم تُذكر أن كوريا الشمالية يمكنها حشد ما يقرب
من 100 ألف جندي، ورغم الافتقار إلى التدريب في ساحة المعركة، يلاحظ أحد الخبراء
أن هؤلاء الجنود تم إعدادهم بدقة لتحمل التحديات البدنية والنفسية الشديدة، كما أن
هذه الأعداد الإضافية قد تغير حقاً في ترجيح الميزان في وقت تعاني فيه أوكرانيا
وروسيا من إرهاق الحرب (الغارديان - 19 نوفمبر).
وبالإضافة إلى ذلك فإن من الأسباب
التي قد تبدو أكثر قرباً إلى الواقع، أن هذا الوضع يأتي في إطار إجراءات إدارة
بايدن في اللحظات والأيام الأخيرة قبل تسلم إدارة دونالد ترامب الحكم في البيت
الأبيض، حيث يسعى بايدن لتحريك الملفات العالقة كافة، ومحاولة العمل على حل
الأزمات وإنهاء الحروب. ومن وجهات النظر المتعلقة بذلك، أن كثيرين بمن فيهم إدارة
بايدن والدول الأوروبية الأخرى يخشون أن يجبر ترامب -الذي تعهد بأنه سيعمل على
إنهاء الحرب بسرعة- كييف على تقديم تنازلات غير مقبولة.
جاء القرار بعد مرور ما يقرب من ألف
يوم على بدء الحرب الشاملة في أوكرانيا، ومع بقاء شهرين تقريباً على موعد تسليم
بايدن مفاتيح البيت الأبيض للرئيس المنتخب ترامب، الذي يُنظر إليه على أنه أقل
دعماً لطموحات أوكرانيا في الاحتفاظ بكل أراضيها، كما جاء ذلك في الوقت الذي ضربت
فيه روسيا أوكرانيا بهجوم صاروخي مدمر، مما سلط الضوء على رغبة أوكرانيا اليائسة
في استهداف أنظمة الأسلحة الروسية في عمق البلاد قبل إطلاقها، وهو ما أكده الرئيس
الأوكراني زيلينسكي لأكثر من عام (سي بي إس - 18 نوفمبر).
ما مدى قوة وأهمية هذه الصواريخ؟
تتمتع صواريخ "أتاكمس" التي
طورتها شركة لوكهيد مارتن الأمريكية لصناعات الفضاء والدفاع، بمدى ضرب يبلغ ضعف
المسافة التي تصل إليها معظم الأسلحة التي تمتلكها أوكرانيا، ما يصل إلى 300
كيلومتر (190 ميلاً)، ولها حمولة أكبر وتتمتع بدقة أكبر في تحديد الأهداف لشن
هجمات دقيقة على المطارات ومخازن الذخيرة والبنية الأساسية الإستراتيجية.
تُطلَق إما من نظام إطلاق الصواريخ
المتعددة المجنزرة M270 أو نظام الصواريخ المدفعية عالية الحركة M142 المزود بعجلات (Himars). تبلغ تكلفة كل صاروخ
حوالي 1.5 مليون دولار، وتُشغل الصواريخ الهجومية باستخدام الوقود الصاروخي الصلب
وتتبع مساراً بالستياً في الغلاف الجوي قبل أن تعود إلى الأسفل بسرعة وزاوية
عالية، مما يجعل اعتراضها أمراً صعباً. وهي مصممة لحمل نوعين مختلفين من الرؤوس
الحربية:
النوع الأول عبارة عن مجموعة من
القنابل الصغيرة المصممة لتدمير الوحدات المدرعة الخفيفة على مساحة واسعة، وقد
تشمل هذه الوحدات الطائرات المتوقفة والدفاعات الجوية وتجمعات القوات. ورغم أن
الرؤوس الحربية العنقودية مفيدة فإنها قد تترك وراءها قنابلَ صغيرةً غير منفجرة
تشكل خطراً لفترة طويلة بعد توقف القتال.
أما النوع الثاني فهو رأس حربي واحد
عالي الانفجار، يبلغ وزنه 225 كيلوغراماً، ومصمم لتدمير المنشآت المحصنة والهياكل
الأكبر حجماً.
لقد زودت الولايات المتحدة أوكرانيا
بعشرات من أنظمة أتاكمس واستُخدِمت لتدمير أهداف عسكرية في الأجزاء التي تسيطر
عليها روسيا من أوكرانيا مثل شبه جزيرة القرم ولكن ليس على الأراضي الروسية، وتأمل
الولايات المتحدة أن تساعد هذه الأسلحة في تقليص القوة الجوية الروسية وإضعاف خطوط
الإمداد التي تحتاجها لشن ضربات يومية ودعم هجومها العسكري البري في أوكرانيا،
وإذا تم استخدام هذه الأسلحة في كورسك، فمن المرجح أن تتطلب استعداد القوات
الروسية لشن هجمات مضادة لدفع المعدات والقوى العاملة القيمة إلى الوراء وتعقيد
خطط المعركة.
كشف معهد دراسة الحرب في واشنطن عن
خريطة تسرد جميع الأهداف المحتملة التي يمكن لأوكرانيا أن تضربها. ووفقاً للمعهد،
فإن ما لا يقل عن 245 هدفاً عسكرياً وشبه عسكري روسياً معروفاً تقع ضمن نطاق
صواريخ أتاكمس، وتحديداً النسخة التي يبلغ مداها 300 كيلومتر. ومن بين هذه الأهداف
16 مطاراً فقط، نقلت روسيا منها جميع طائراتها تقريباً.
يتفق الخبراء على أنه في حين أن أنظمة
الدفاع الصاروخي المضادة للطائرات من طراز أتاكمس قد تقدم
لأوكرانيا مكاسبَ إستراتيجيةً من خلال استهداف مراكز اللوجستيات والقيادة العسكرية
الروسية في عمق الأراضي الروسية، فإن تأثيرها على المسار العام للحرب محدود بسبب
ندرتها، وتعمل أوكرانيا بإمدادات محدودة من الذخائر بعيدة المدى، مما يجعل كل ضربة
صاروخية عملية عالية الأخطار (ذا تايمز أوف إنديا - 18 نوفمبر).
وقال دبلوماسي غربي في كييف لهيئة
الإذاعة البريطانية (بي بي سي) شريطة عدم الكشف عن هويته: "لا أعتقد أن
القرار سيكون حاسماً، ومع ذلك، فهو قرار رمزي متأخر لرفع الرهانات وإظهار الدعم
العسكري لأوكرانيا، ويمكن أن يزيد تكلفة الحرب بالنسبة لروسيا".
الرد الروسي المتوقع
أصدر الكرملين تحذيراً صارخاً، مهدداً
بـ “رد سريع" من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد التوترات بين الولايات المتحدة
وروسيا. وقال المتحدث باسم فلاديمير بوتن، دميتري بيسكوف، للصحفيين: "من
الواضح أن الإدارة المنتهية ولايتها في واشنطن تنوي اتخاذ خطوات لمواصلة صب الزيت
على النار وتأجيج التوترات حول هذا الصراع". وأكد بيسكوف أن كلمات بوتين في
سبتمبر لا تزال قائمة، عندما قال الرئيس الروسي إن السماح لكييف باستخدام أسلحة
بعيدة المدى ضد أهداف داخل روسيا يعني أن حلف شمال الأطلسي سيكون "في حالة
حرب" مباشرة مع موسكو.
من المتوقع أن روسيا ستعمل على محاولة
إثارة قلق الرأي العام الأمريكي والغربي من تداعيات هذه الخطوة والإشارة إلى أنها
قد تؤدي إلى توسع الحرب والتصعيد، وسترى في التهديدات النووية تكتيكاً لإثارة
الخوف، وهذا ما يمكن أن يدفع الإدارة الأمريكية للعودة إلى حالة التردد ويشجع
إدارة ترامب المقبلة على إنهاء الحرب كما تعهد سابقاً حتى وإن قدمت أوكرانيا
تنازلات لروسيا.
ويتوخى القادة الأوكرانيون الحذر في
التعامل مع هذا الإعلان، وقد أكد كبار القادة العسكريين والدفاعيين الأمريكيين
بإصرار أن هذا الإعلان لن يغير قواعد اللعبة، كما لاحظوا أن روسيا نقلت العديد من
الأصول الرئيسة إلى خارج نطاقها. وبدوره قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن:
"لا أعتقد أن قدرة واحدة ستكون حاسمة وأنا متمسك بهذا التعليق"، مشيراً
إلى أن الأوكرانيين لديهم وسائل أخرى لضرب أهداف بعيدة المدى.
إذا تم السماح بتنفيذ ضربات في جميع
أنحاء روسيا، فقد يؤدي ذلك إلى تعقيد قدرة موسكو على الاستجابة لمطالب ساحة
المعركة بشكل كبير، وإذا اقتصرت الضربات على منطقة كورسك، فقد تنقل روسيا مراكز
قيادتها ووحداتها الجوية إلى مناطق قريبة، الأمر الذي من شأنه أن يخفف من تأثير
هذه التحديات اللوجستية. وهذا يعني أيضاً أن العديد من الأهداف القيمة التي أعرب
المسؤولون الأوكرانيون عن رغبتهم في ضربها ربما لا تزال بعيدة المنال. وقالت
جينيفر كافاناغ، مديرة التحليل العسكري في مؤسسة أولويات الدفاع، إن القرار الأمريكي
لن يغير مسار الحرب، وإن فرض تكاليف حقيقية على روسيا يتطلب من أوكرانيا أن تمتلك
مخزوناتٍ كبيرةً من نظام ATACMS، وهو ما لا تملكه ولن تتلقاه لأن إمدادات الولايات المتحدة محدودة
(أسوشيتيد برس - 19 نوفمبر).
الخلاصة
رغم خطورة هذه الخطوة الأمريكية، فإنها من غير المرجح أن تؤدي إلى إشعال شرارة حرب عالمية؛ لأن نطاق الضربات المحتملة ضيق للغاية، في حين كان لدى روسيا بالفعل ما يكفي من الوقت لتحريك الأهداف الأكثر إثارة للاهتمام بعيداً عن نطاقها. لكن بالتأكيد، هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع حدة التصعيد في أوكرانيا، ومن المتوقع أن إدارة بايدن تريد فرض ضغوط على روسيا ومنعها من تحقيق تقدم على القوات الأوكرانية، في المقابل يمكن أن تشجع القوات الأوكرانية على شن هجوم جديد وهذا ما كشفت عنه بعض الوسائل الإعلامية بأن القوات الأوكرانية تتحضر لتنفيذ عملية عسكرية ضد القوات الروسية، وهو ما يمكن أن يشكل عامل ضغط على موسكو لدفعها إلى التوصل إلى اتفاق مع أوكرانيا تحت رعاية إدارة بايدن، إلا أنه من المتوقع أن تتجاهل موسكو هذه المساعي وتنتظر قدوم إدارة ترامب الذي انتقد سابقاً تقديم بلاده الدعم لكييف.