تتوالى الأحداث المرتبطة بالانقلاب العسكري الذي قادته مجموعة من العسكريين في دولة النيجر، الواقعة في منطقة الساحل الأفريقي. فبعد أيام من الإطاحة بالرئيس النيجري، محمد بازوم، احتشد الآلاف من مؤيدي الانقلاب قرب السفارة الفرنسية في عاصمة البلاد، نيامي، لإيصال رسالة إلى فرنسا المستعمرة السابقة للبلاد والقوّة الاستعمارية صاحبة النفوذ الأقوى في الدولة وفق ما يعتقده هؤلاء، وحلفائها الغربيين. الجدير بالذّكر أن هؤلاء المحتجين المؤيدين للانقلاب كانوا يلوّحون بالأعلام الروسية، ويهتفون بعبارات "يعيش بوتين" و"تسقط فرنسا".
يعتبر إسقاط بازوم حلقة من سلسلة الانقلابات الأخيرة التي امتدت على خمس دول فى غرب ووسط أفريقيا استولت عليها المجالس العسكرية في السنوات الثلاث الماضيات، خمسة منها مستعمرات فرنسية سابقة، ما يعني تضاؤل النفوذ الفرنسي عمّا كان عليه في حقبة ما بعد الاستعمار وتحرّر البلاد من السطوة الفرنسية. من دلائل ذلك أنه في غرب أفريقيا، المنطقة المتحدّثة باللغة الفرنسية بدرجة كبيرة، كانت فرنسا في عام 1980 مهيمنة كقوّة أجنبية في تسع دول من الست عشر دولة الموجودة في المنطقة، أمّا فلا تتجاوز هيمنتها ثلاثة من هذه الدول.
تأكيدا على المسار المفارق الذي اعتمده المجلس العسكري النيجري للسياسة الغربية، وبخاصة الفرنسية والأميركية، أعلن مُنفّذو الانقلاب العسكري في النيجر، في بيان إنهاء مهمّات سفراء بلادهم في فرنسا والولايات المتحدة ونيجيريا وتوغو. في نفس الوقت، تطالب الولايات المتحدة وفرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) المجلس العسكري الانقلابي المحتجز للرئيس بازوم بالإفراج عنه وبعودة الحكم الدستوري في البلاد. كما ألمحت المجموعة إلى اتخاذ خيارات عقابية بحق الانقلابيين من بينها التدخّل العسكري إذا لزم الأمر. ومع ذلك، فالمجموعة غير منسجمة في طرحها، إذ أعلنت كل من مالي وبوركينافاسو أنّ التدخل العسكري في النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب ضدهما.
وانطلاقا من التباين في الفضاء الأفريقي المرتبط بالداخل والخارج، ونظرا للتوسّع الروسي في القارة الأفريقيّة، ننظر في هذا المقال التحليلي في الوضع في أفريقيا من جانب الصراع الروسي الغربي ومآلات هذا الصراع على الدول الأفريقي ومستقبل النفوذين الروسي والغربي في منطقة الساحل الأفريقي.
موقف الولايات المتّحدة
تتريّث الولايات المتحدة في مسألة التعاطي مع الانقلاب النيجري، إذ لا هي تريد التعجّل باتهام روسيا بالتحريض على الانقلاب، ولم تقرّر ما إذا كانت ستقوم بسحب قواتها من النيجر. ولكن وسط التوترات، أعلنت الولايات المتحدة، التي لديها قاعدة للمسيرات وقوات في النيجر تبلغ حوالي 1100 عسكري، أنها ستجلي بعض الموظفين والأسر من سفارتها في البلاد. وأضافت أن البعثة ستظل مفتوحة وستواصل القيادة العليا العمل هناك.
البيت الأبيض، قال إنه ليس لديه أي مؤشر على أنّ روسيا وراء الانقلاب في النيجر وأن الولايات المتحدة لم تغير قرارها بشأن الوجود في الدولة الواقعة في غرب أفريقيا. وقال منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية جون كيربي أنه على الرغم من إطاحة مجلس عسكري برئيس النيجر المنتخب ديمقراطيا، محمد بازوم وحكومته، يوم الأربعاء الماضي في سابع انقلاب عسكري في أقل من ثلاث سنوات في غرب ووسط إفريقيا، لم تتخذ الإدارة الأميركية أي قرار بعد بشأن مستقبل المساعدة الأميركية للنيجر.
ومع ذلك، فقد أدانت الدول الغربية بشدة انقلاب 26 يوليو في النيجر. ورأى الكثير منها النيجر على أنها الشريك الأخير الموثوق به للغرب في جهود محاربة الجماعات المسلحة المرتبطة بالقاعدة وداعش في منطقة الساحل الأفريقي، ويخشون أن يؤدي عدم الاستقرار في البلاد إلى السماح للمقاتلين بالسيطرة على الأرض.
النفوذ الروسي في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل
لم يظهر النفوذ الروسي في منطقة غرب أفريقيا مع التحقيقات والتقارير التي خرجت إلى العلن مؤخرا، التي تناولت نفوذ موسكو في القارّة من خلال قوات فاغنر. فالاهتمام الروسي في المنطقة بدأ مع مبادرات الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات من القرن الفائت. ففي الفترة الممتدة بين عامي 1957 و1964، سعى الاتحاد السوفييتي إلى تصدير نموذج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الاشتراكية إلى غرب أفريقيا. ومع ذلك، تقوّضت الثقة السوفييتية في المشروع بسبب عدم موثوقية القادة المحليين، ثم بسبب أزمة الكونغو.
كانت سياسة موسكو مدفوعة بفكرة أن الاشتراكية نظام اقتصادي متفوّق، ويمكن تكراره في غانا وغينيا ومالي. وكان التدخل السوفييتي في أفريقيا واسع الانتشار، حيث قدّم مساعدات اقتصادية وعسكرية للحكومات ذات الميول الاشتراكية والميليشيات التي خاضت حروب التحرير. في ذلك الوقت وبعد ذلك ، حافظت روسيا على وجود دبلوماسي على مدى عقود في معظم البلدان الأفريقية.
لقد علّمت النكسة في غرب أفريقيا القيادة السوفييتية دروسا حاسمة، بما في ذلك أهمية دعم القادة الموثوق بهم أيديولوجيا، وضرورة بناء القوة العسكرية لتعزيز التدخل. إنّ تعلّم موسكو لهذا الدرس جعلها تكثّف وجودها في مالي وبوركينافاسو بعد الانقلابات التي حصلت في هذين البلدين، الأمر الذي عزّز من تباين مواقفهما عن موقف مجموعة الايكواس. فجاء موقفهما موائما لموقف الكرملين، الذي حذّر من تبعات التهديدات بالتدخّل العسكري على تخفيف التوترات أو تهدئة الوضع الداخلي، ودعا في الوقت نفسه إلى حوار وطني عاجل.
لطالما عزّزت روسيا تصورات لدى الأفارقة مفادها أن قيادتها تمثّل قوة فعّالة مناهضة للاستعمار تسعى لتحرير الأفارقة من القمع الأوروبي والأميركي الرأسمالي. ومن خلال هذا الإطار، يسعى الكرملين إلى تعزيز العلاقات مع الأفارقة، فمع بداية الانقلاب في النيجر الأسبوع الماضي، كان الرئيس الروسي يعزّز علاقاته بالقادة الأفارقة في قمة سانت بطرسبرغ، حيث انتقد الاستعمار الغربي واستقطب الحاضرين بالهدايا، بما في ذلك إعفاء الصومال من الديون، وتقديم مختبر طبي متنقّل لأوغندا، وإعطاء مروحية لرئيس زيمبابوي.
مع ذلك فإن تبعات الحرب الروسية الأوكرانية ألقت بظلالها على هذه العلاقات، إذ لم يحضر سوى 17 قياديا أفريقيا هذه القمّة على عكس قمّة عام 2019، التي حضرها 43 قياديا أفريقيا. من المرجّح أنّ غياب الكثير من القادة الأفارقة عن هذه القمّة كان نتاج انسحاب روسيا من اتفاق السماح بتصدير الحبوب الأوكرانية، الأمر الحاسم لإمدادات الغذاء في القارة. وكان بوتين قد برّر انسحابه من الاتّفاق، وتعهد بإرسال حبوب مجانية إلى ست دول أفريقية من بينها بوركينافاسو، التي أعلن الحاكم الفعلي لها والمستولي على السلطة بانقلاب أوكتوبر الماضي، إبراهيم تراوري، بتعزيز العلاقات مع روسيا.
تجدر الإشارة إلى أنّ تعزيز العلاقات الروسيّة الأفريقية جاء أيضا من جانب توريد الأسلحة الروسيّة إلى الدول الأفريقية، حيث تدفّقت عمليات نقل الأسلحة الروسية إلى أفريقيا من خلال توفير روسيا لـ40% من الأسلحة التي استوردتها الدول الأفريقية منذ عام 2018. وأصبحت مجموعة فاغنر منخرطة بشكل كبير في المصالح الأمنية لدول مثل جمهورية أفريقيا الوسطى والسودان، حيث لا توفّر التدريب العسكري فحسب، بل توفر أيضا الأمن لمناجم الذهب وغيرها من المناجم - مقابل حصة من الأرباح.
وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة لم تتبنّ سيناريو الأيادي الروسية في الانقلاب، إلا أنّه لا يخفى وجود علاقة للانقلاب أو الانقلابيين بالروس، فبينما تتسابق الدول الغربية لإجلاء مواطنيها من نيامي، سافر أحد قادة الانقلاب في النيجر مع وفد إلى مالي، حيث يتمركز المئات من عناصر فاغنر، لطلب الدعم. وعلّق يفغيني بريغوجين مؤسس فاغنر على أحداث النيجر بالقول أن اللوم في انقلاب النيجر يكون على إرث الاستعمار، وقال إن مجموعته كانت قادرة على التعامل مع مواقف مثل تلك التي تتكشف في نيامي. وقال بريغوجين في رسالة نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي: "ما حدث في النيجر كان يختمر منذ سنوات... يحاول المستعمرون السابقون إبقاء شعوب البلدان الأفريقية تحت السيطرة. من أجل كبح جماحهم... يملأ المستعمرون السابقون هذه البلدان بالإرهابيين وتشكيلات قطاع الطرق المختلفة، وبالتالي خلق أزمة أمنية هائلة".
خلاصات
تحاول الولايات المتحدة بموقفها وقراراتها المتريّثة المحافظة على نفوذها في النيجر قدر الإمكان ريثما تجد حلا سياسيا، إما بالاتفاق مع المجلس العسكري الجديد، وإمّا من خلال آلية محكمة تعيد الرئيس بازوم إلى سدّة الرئاسة. ولكن المسألة تتجاوز عودة بازوم إلى الرئاسة من عدمها.
تشير الأحداث التي أعطيت زخما مع بداية الانقلاب الأخيرة في بوركينافاسو ومالي وآخرها النيجر إلى أنّ لا رغبة لأصحاب النفوذ الأفريقيين، أو المستولين على السلطة، باستمرار النفوذ الغربي في بلادهم، لا سيما الفرنسي منه. ويبدو أنّ حالة من الوفاق، لا أقول التحالف، تسود العلاقات الروسية الأفريقية تعود إلى حقبة الاتحاد السوفييتي وتتعزّز مع سياسة روسيا في منطقة غرب أفريقيا والساحل الأفريقي، والدول الأفريقية بشكل عام.
هذا الوضع يجعل من منطقة غرب أفريقيا بؤرة صراع روسي غربي وكلائي في مجاله الحالي، إلا أنّه يحاكي ما يدور على مشارف القارة الأوروبية المتمثّل بالحرب الروسيّة الأوكرانية. على الرغم من الدلائل التي تشير إلى ارتكاس النفوذ الغربي في المنطقة وتصاعد النفوذ الروسي، إلا أنّه من المبكّر القول بحسم الصراع بينهما، لا سيّما مع انخراط روسيا بشكل مباشر في حربها مع أوكرانيا، وعدم وضوح السياسة الأميركية المستقبلية تجاه ما يحصل في المنطقة الأفريقية المتأجّجة.