![](https://icss.ae/uploads/article-ar-european-right-wing-ascendancy-and-relations.jpg)
بعد أن حقق اليمين الأوروبي فوزاً كبيراً في انتخابات البرلمان الأوروبي، هناك قلق عميق في أوساط المنظمات الأوروبية تجاه المعارك السياسية المتوقعة التي ستتفجر بعد نجاحه. خاصة أنه من الممكن أن يمنحه هذا الفوز نفوذاً أكبرَ في رسم السياسات وصناعة القرار.
إن اليمين الراديكالي أو الشعبوي، أيديولوجيا سياسية، عنصرها الأساسي أسطورة الأمة المتجانسة، وهي قومية متطرفة رومانسية موجهة ضد مفهوم الديمقراطية الليبرالية ومبادئها، تبنتها مجموعة من الأحزاب القومية، بعضها متطرف، زاد دعمها منذ أواخر السبعينات في أوروبا، تسير على منهاج ثابت في معارضة العولمة والهجرة والتعددية الثقافية.
وفي معظم الدول الأوروبية، تم استخدام مصطلحي "اليمين الراديكالي" و"اليمين المتطرف" بالتبادل. فيشير الراديكالي إلى اليمين خارج التيار السياسي السائد الذي لا يهدد الديمقراطية، أما المتطرف فيشير إلى الجماعات التي تهدد دستورية الدولة، وهو محظورة بموجب القانون الألماني. وقد نشأ مصطلح "اليمين الراديكالي" في الخطاب السياسي الأمريكي، حيث تم تطبيقه على مختلف الجماعات المناهضة للشيوعية في حقبة المكارثية في الخمسينات، ثم دخل المصطلح ومفهومه إلى أوروبا الغربية من خلال العلوم الاجتماعية. أما مصطلح "اليمين المتطرف" فقد تطور بين الباحثين الأوروبيين، لوصف الجماعات اليمينية التي نشطت في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وفي مقال قديم له بمجلة "الحكومة والمعارضة Government and Opposition" التي تُصدرها جامعة كمبردج، ذكر أستاذ علم الاجتماع السياسي مايكل مينكنبرج، أن اليمين المتطرف ظاهرة حديثة، مرت بمراحل تجديد متعددة، نتيجة لتحولات التحديث الاجتماعي والثقافي في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت تتطور بشكل منفصل حسب موقع نشأتها في أوروبا. فالجماعات اليمينية في أوروبا الشرقية، كانت متميزة عن نظيراتها في الغربية. وأن اليمين الراديكالي في أوروبا الشرقية أكثر مناهضة للديمقراطية وأكثر تشدداً من نظيره الغربي، وأنه بسبب التوجهات الديمقراطية الليبرالية الجديدة نسبياً في أوروبا الشرقية، فلا يزال من الممكن استخدام العنف كأداة سياسية من قبل اليمين المتطرف الشرقي (Minkenberg, The Renewal of the Radical Right, April 2000, p. 171). وهي وجهة النظر التي أثبتت صحتها خلال الأحداث السياسية والأمنية التي مرت بالقارة الأوروبية منذ عام 2000 وحتى الآن.
ديناميات الصعود والسمات المشتركة:
يكتسب صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية أهمية خاصة لأنه نتاج ديناميتين رئيستين تضافرتا معاً. الأولى هي الحد من الهجرة، بعد أن ازدادت الأنشطة الإرهابية، فغذت الجماعات اليمينية شعوراً سائداً في المجال العام بأن أوروبا على وشك أن يغمرها طوفان المهاجرين الفارين من الصراعات. وقد تم استغلال أزمة المهاجرين للتأثير في تصويت المملكة المتحدة عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومهد ذلك الطريق أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا ودول أخرى كي تستخدم الخوف من الهجرة لحشد الدعم الشعبي. والثانية هي التحديات الاقتصادية، التي تستخدمها الأحزاب اليمينية لجذب المؤيدين، فجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا خلفتا آثاراً اقتصادية كبيرة، أدت إلى ارتفاع الأسعار والتضخم وارتفاع أسعار الفائدة على المقترضين، فاستغل الشعبويون مخاوف الناس ليثيروا مشاعرهم. كما أن سياسات المناخ واحدة من بين القضايا التي يستقطب بها اليمين الناخبين، فهو يصور السياسات الخضراء على أنها غير ضرورية ومكلفة في وقت تواجه فيه الدولة مصاعب مالية (المجلة: 15 مارس 2024).
ذكرت تيري جيفنز في كتابها عن "التصويت لليمين المتطرف في أوروبا الغربية"، أن اليمين يقترح اتخاذ ضوابط أقوى على المهاجرين، وإعادة العاطلين عن العمل إلى أوطانهم، ويطالب بتطبيق سياسة تفضيل وطني في المزايا الاجتماعية. ولتحقيق ذلك، فإنه يعمل ضمن النظام السياسي والانتخابي لأوروبا، وفي الوقت ذاته يناهض السلطة دون أن يتلوث بفضائح الحكومات والأحزاب الأخرى (Terri Givens, Voting Radical Right in Western Europe, p.20, 21).
وتتلخص وعود اليمين المتطرف في أوروبا في ضرورة الحماية من تهديدات العولمة، من خلال البناء العرقي المؤكد لعقيدة "نحن الشعب". كما أنه لا ينسب نفسه إلى سياسة اقتصادية محددة، حيث تميل بعض أحزابه نحو سياسة السوق الحرة الليبرالية، وبعضها الآخر نحو سياسة دولة الرفاهية، لكنه في المجمل مناهض لليورو، ولديه مخاوف أمنية متجددة. ووفقاً للباحث السياسي أندريه زاسلوف في دراسته "الجانب المظلم للسياسة الأوروبية: كشف قناع اليمين الراديكالي" التي نشرتها مجلة "التكامل الأوروبية Journal of European Integration"، فإن أحزاب اليمين تستخدم رسالة سياسية مناهضة للدولة، ومعادية للبيروقراطية والنخبة والاتحاد الأوروبي ذاته (Zaslove, The Dark Side of European Politics: 1 March 2004).
خريطة تحالفات اليمين في أوروبا:
تقوم معظم الأحزاب السياسية في أوروبا بتشكيل تحالفات بينها لتحقيق مصالحها، فتقوم بالاندماج مع الأحزاب التي تشاركها الأيديولوجيا نفسها. الأمر الذي بدا واضحاً في ممارسات الأحزاب اليمينية خلال انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2024، التي من المتوقع أن تؤثر في المشهد السياسي في أوروبا مع زيادة دعم الأحزاب المتشددة، مما سيعزز المجموعات القومية والمتطرفة.
ويعد تحالف "حزب الشعب الأوروبي" الذي تأسس عام 1976 في لوكسمبورغ، من أبرز تلك التكتلات اليمينية، ويمثل أكبر تجمع سياسي يميني، وأقرب إلى يمين الوسط، والأكبر في البرلمان الأوروبي منذ عام 1999، والأكبر في المجلس الأوروبي منذ عام 2002، ويضم "الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني"، و"منصة المواطنين" البولندية (The Economist, 31 May 2023). هناك أيضاً "التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين"، الذي تأسس كمجموعة اشتراكية عام 1953، ويشار إليه باسم الاشتراكيين والديمقراطيين، ويضم "الحزب الاشتراكي الإسباني" و"الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني"، وبعض النواب المستقلين، وتركز سياساته على العدالة الاجتماعية ومواجهة التهديدات الأمنية (دوتش فيلا: تم الاطلاع في 11 يونيو).
يوجد أيضاً تكتل "تجديد أوروبا"، الذي جمع بين الأحزاب الوسطية والليبرالية، بما في ذلك حزب "النهضة" الذي يقوده إيمانويل ماكرون. ثم تحالف "المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون"، ويضم "حزب إخوة إيطاليا" بقيادة "جورجيا ميلوني"، و"حزب القانون والعدالة" البولندي، و"فوكس" الإسباني، و"حزب استعادة فرنسا" الذي أسسه إريك زمور. أيضاً تحالف "الهوية والديمقراطية"، الذي يضم "التجمع الوطني الفرنسي" بزعامة مارين لوبان، و"حزب الحرية النمساوي"، و"حزب المصلحة الفلمنكية" البلجيكي. وكان يضم "حزب البديل الألماني" قبل طرده في مايو الماضي بعد سلسلة من الفضائح (الحرة: 9 يونيو).
هناك أيضاً "تحالف الخضر/90"، وهو نتاج اندماج "حزب الخضر الألماني" و"تحالف 90" الذي تشكل من ثلاث مجموعات سياسية غير شيوعية في جمهورية ألمانيا الشرقية عام 1990 من قبل حركة المنتدى الديمقراطي الجديد وجماعة مبادرة دعم السلام وحقوق الإنسان. ويركز هذا التحالف على الاستدامة البيئية المناخية والاقتصادية والاجتماعية. ومنذ عام 2021 تشترك ريكاردا لانغ مع أوميد نوريبور في قيادته (Los Angeles Times: 11 Jan. 2019). وأخيراً "تحالفات اليسار"، التي تضم "حزب فرنسا الأبية" بقيادة جون جاك ميلانشون، و"حزب شين فين" الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي (الحرة: 9 يونيو).
الاتصالات والروابط:
من المعروف أن اليمين الأوروبي يحظى بدعم مجموعات غير مستساغة انتخابياً، مثل حركات الهوية المسيحية، والتنظيمات التي تتبنى وجهاتِ نظر معاديةً للسامية، كما أنها تروج للأبحاث العلمية العنصرية التي تنكر الهولوكوست، وتتبنى النظريات الاقتصادية النازية الجديدة مثل "الستراسرزم Strasserism" ذلك التيار الأيديولوجي النازي الملتزم بالقومية الثورية والمعادي للسامية الاقتصادية.
ولم تقتصر اتصالات اليمين بالمنظمات والحركات فقط، بل إن روسيا سعت لدعم السياسيين الشعبويين اليمينيين في أوروبا. كما أن بعض أحزاب اليمين، مثل "التجمع الوطني الفرنسي"، و"البديل من أجل ألمانيا"، و"المنتدى الهولندي من أجل الديمقراطية"، و"حزب الحرية النمساوي"، و"رابطة الشمال الإيطالية"، و"منظمة جوبيك المجرية"، وطدت علاقاتها مع الكرملين، ووقع "حزب الحرية النمساوي" و"رابطة الشمال الإيطالية" اتفاقيات تعاون مع "حزب روسيا الموحدة". وعمل الرئيس فلاديمير بوتين على تمكين الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا من خلال عروض التعاون والقروض والغطاء السياسي والدعاية، ولم يكن ذلك دون مقابل، فالشعبويون الأوروبيون يردون بالثناء المفرط على روسيا، وسياستها الخارجية، وزعيمها القوي، ويدعمون مواقفه. وقد نشرت نيويورك تايمز في مارس الماضي ما يفيد باتهام سياسي بارز في حزب البديل من أجل ألمانيا بأخذ أموال من إستراتيجيين موالين للكرملين (نيويورك تايمز: 15 إبريل 2024).
وبطبيعة الحال، فإن تمكين الشعبويين المناهضين للاتحاد الأوروبي له فائدة واضحة تتمثل في المساعدة في تآكل قوة المؤسسات الأوروبية التي لطالما رأتها موسكو عدوة. وفي رأي ماركوس فاغنر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيينا، فإن فوائد احتضان بوتين لليمين الأوروبي أكثر تجريداً وأيديولوجية، فهم ينظرون إليه كبطل يفضل التقاليد والسياسة الواقعية على النزعة الدولية والانفتاح، وهو تجسيد للرجل القوي الذي يأمل العديد من السياسيين اليمينيين المتطرفين تقليده (الشرق للأخبار: 15 مارس 2024).
ولم تقتصر علاقات اليمين الأوروبي بروسيا فقط، بل امتدت منذ عقود إلى الولايات المتحدة أيضاً، ففي عام 1998، كان نقل الأفكار بين الجماعات اليمينية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة أمراً شائعاً، حتى ساد الاعتقاد أواخر القرن العشرين بظهور "يمين متطرف أوروبي أمريكي" من شأنه أن يعزز الأفكار اليمينية العابرة للحدود الوطنية. ورغم ذلك، فإن اليمين الأوروبي تمكن من تحقيق نجاحات انتخابية بطريقة فَشِل نظيره الأمريكي في تحقيقها. ولكن ثمة اختلاف في القيود القانونية المفروضة على اليمين في القارتين، ففي الولايات المتحدة، يحمي الدستور حرية التعبير للجماعات اليمينية المتطرفة، في حين تم سن قوانين في معظم دول أوروبا الغربية تحظر خطاب الكراهية وإنكار المحرقة، مما أجبر الجماعات اليمينية الأوروبية على تقديم صورة أكثر اعتدالاً في السنوات الأخيرة من القرن العشرين (Jeffrey Kaplan, The Emergence of a Euro-American Radical Right, London: 1998, p. 46). وكانت ذروة التعاون بين اليمينين الأوروبي والأمريكي أثناء انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث نال انتخابه إشادة اليمين المتطرف الأوروبي، وتم توسيع العلاقات بين البيت الأبيض وحزب الحرية النمساوي، كما أسس ستيف بانون، كبير الإستراتيجيين السابق في البيت الأبيض، شبكة تهدف إلى تعزيز قضايا اليمين المتطرف الأوروبية (The Independent: 23 July 2018).
خلاصة:
قد يؤدي فوز اليمين إلى تشريعات أكثر صرامة في الاتحاد الأوروبي حول موضوع الهجرة، بما يعرقل طلبات اللجوء، فرغم تطور السياسات الأوروبية التي أصبحت أكثر نضجاً خلال العقود الأخيرة، لا يزال اليمين المتطرف يستخدم الهجرة والعولمة كأدوات سياسية، حيث تسببت أزمة المهاجرين في زيادة الدعم الشعبوي للأحزاب اليمينية، وخاصة في بريطانيا، وتسببت الأزمات الاقتصادية في مطالبة اليمين بغلق أوروبا على الأوروبيين.
لتحقيق ذلك تستعين الأحزاب السياسية اليمينية بمجموعات من خارج التنظيم الحزبي قادرة على التعبير عن مجموعة أكثر تبايناً من وجهات النظر اليمينية. غالباً ما تكون هذه الجماعات اليمينية ذات طبيعة دينية، مما يعكس قدراً أكبر من التصوف العنصري، وغالبا ما تعتقد أن الحكومات الغربية تخضع لسيطرة حكومة إسرائيل، وبالتالي تعبر بشكل صريح عن وجهات نظر معادية للسامية. وتتضامن هذه المجموعات مع الأحزاب اليمينية المتطرفة في مواجهة الرأسمالية والأسواق الحرة، وتفضل سيطرة الدولة بشكل أكبر على الاقتصاد وتحجيم الهجرة، مما يجعل لها غطاء من خارج المؤسسات الأوروبية الرسمية يضمن لها التأييد الشعبي لتحقيق أهدافها.