مقالات تحليلية

الحرب الروسية الأوكرانية .. أهم حدث في 2022

30-Dec-2022

تمكنت الحرب الروسية الأوكرانية من احتلال صدارة القضايا الكبرى في العالم خلال السنة المنصرمة (2022)، وامتدت تأثيراتها من القتال الميداني بين روسيا وأوكرانيا، إلى حرب بالوكالة وصراع غير مباشر بين الدول الغربية وروسيا، كما أنها سببت أزمات عالمية في الاقتصاد والغذاء والطاقة.

كما أدت الحرب، إلى مستويات متعددة من التجاذب في العلاقات الدبلوماسية طالت حتى العلاقات الوثيقة بين بعض الحلفاء، فضلا عن الحديث عن سياسية "الأقطاب المتعددة الجديدة" وبروز الصين وروسيا متسلحتين بالطاقة والصناعة والقوة العسكرية، بوصفهما يمثلان الجانب الآخر المكافئ أو البديل للعالم ذي القطب الوحيد القوي بقيادة الولايات المتحدة.

  • أبرز أسباب الحرب

قبل بدء الحرب (يوم 24 فبراير 2022) أطلقت وكالات الاستخبارات الغربية تحذيرات عدة بشأن غزو روسي وشيك لأوكرانيا، ووصل الأمر إلى حد طلب معظم الدول الغربية من رعاياها مغادرة أوكرانيا، وكان ذلك في وقت ظلت روسيا تؤكد في كل مناسبة عدم عزمها غزو جارتها.

لكن موسكو لم تكن تخفي امتعاضها من سياسة كييف تجاهها، وتمدد حلف شمال الأطلسي نحو تخومها.

وبعد أن بدأت القوات الروسية حملتها الواسعة على أوكرانيا من جبهات عدة في الشمال والشرق والجنوب، أعلنت روسيا أبرز أسباب "العملية العسكرية الخاصة" كما تسميها، في خطاب ألقاه الرئيس فلاديمير بوتين، مساء يوم 23 فبراير 2022، وكان مليئا باستحضار التاريخ القيصري والسوفيتي وذِكر رهانات القوة. ويمكن استخلاص أبرز أهداف العملية العسكرية في النقاط التالية (النص الكامل لخطاب بوتين، وكالة الأناضول، 23 فبراير 2021):

  1. إنهاء "نظام النازية الجديدة" الحاكم في أوكرانيا واجتثاثه.
  2. القضاء على التهديد الأمني المستمر الذي أصبحت تمثله أوكرانيا على روسيا.
  3. نزع سلاح أوكرانيا بعد سنوات من "الإبادة الجماعية" واستهداف منطقتي دونتيسك ولوغانسك اللتين توجد بهما أغلبية ناطقة بالروسية، ولم تلتزم كييف بتنفيذ اتفاق "مينسك" بشأنهما الموقع في فبراير 2015.
  4. وقف تمدد حلف شمال الأطلسي الذي ضم عددا كبيرا من دول أوروبا الشرقية، وضمان عدم تمكنه من نشر قوات أو عتاد أو بنية تحتية في أوكرانيا.
  5. التصدي لمحاولات الدول الغربية، "ردع تطور روسيا" كما حدث في السابق، بسبب محافظتها على سيادتها وقيمها وتقاليدها.

ولكن بعد قرابة سنة على بدء الحرب، لم تتحقق النتائج التي رسمتها روسيا تماما، بل إن مراحل من الحرب شهدت تراجعا ميدانيا وواضحا، فقد ألغت القوات الروسية محاولة اقتحام العاصمة كييف بعد مقاومة شرسة، فضلا استرداد القوات الأوكرانية لمناطق عدة، لكن روسيا حققت أيضا نتائج سياسية وأخرى على الأرض.

← أبرز المكاسب والخسائر الروسية

  • المكاسب
  1. ضم مناطق واسعة وذات أهمية سياسية واقتصادية كبيرة تمثل نحو 17% من مساحة أوكرانيا بحلول نوفمبر الماضي (موقع الحرة، 22 نوفمبر 2022)، وذلك بعد الاعتراف باستقلال ما يسمى جمهوريتي دونباس ودونيتسك الشعبيتين وضمهما لروسيا لاحقا عبر استفتاء شعبي.
  2. ضم مناطق واسعة وذات أهمية سياسية واقتصادية كبيرة تمثل نحو 17% من مساحة أوكرانيا بحلول نوفمبر الماضي (موقع الحرة، 22 نوفمبر 2022)، وذلك بعد الاعتراف باستقلال ما يسمى جمهوريتي دونباس ودونيتسك الشعبيتين وضمهما لروسيا لاحقا عبر استفتاء شعبي.
  3. إظهار الدور الروسي البارز في حسابات الطاقة عالميا، وقد كشفت بيانات لشبكة بلومبيرغ أن الأوروبيين خسروا نحو تريليون دولار بسبب ارتفاع أسعار الغاز.
  4. الحصول على تحالفات عالمية أبرزت مدى تغلغل الدبلوماسية الروسية في مناطق بآسيا وإفريقيا، تجلت في التضامن داخل منظمة "أوبك +" ومجموعة "بريكس" التي  تضم روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، كما برزت قوة علاقة روسيا بدول إفريقية عدة،  ومدى التعاطف معها في بعض دول أوروبا الشرقية.
  • الخسائر
  1. اعترفت موسكو بأن عدد القتلى من جيشها بلغ نحو 6 آلاف، بينما تقول الولايات المتحدة إن القتلى والمصابين من الجنود الروس ناهزوا 100 ألف.
  2. الفشل في الاستيلاء على العاصمة كييف، وخسائر كبيرة خلال الهجوم عليها.
  3. فقدان مساحات كبيرة من الأراضي التي سيطرت عليها في البداية، ومن بينها خاركيف وخيرسون (التي ضمتها روسيا) ومناطق من دونيتسك، وتراجعت الأراضي التي تسيطر عليها من 22% من مساحة أوكرانيا خلال الأسابيع الأولى، إلى 17% في ديسمبر 2022.

←أبرز المكاسب والخسائر الأوكرانية

  • المكاسب
  1. الوقوف بشكل قوي ومفاجئ أمام الزحف الروسي، وإفشال السيطرة على العاصمة.
  2. استعادة مناطق عدة خلال هجمات مضادة في الصيف، وتتويج ذلك بأبرز مكسب وهو استعادة خيرسون (نوفمبر 2022).
  3. تحقيق مكاسب عسكرية من أهمها استهداف العمق الروسي عبر الطائرات المسيرة، فضلا عن إغراق الفرقاطة العسكرية الروسية "موسكوفا" (أبريل 2022)، وقصف جسر القرم ( أكتوبر 2022).
  • الخسائر
  1. اعترفت أوكرانيا على لسان قائد أركان القوات المسلحة فاليري زالوزنيي، بمقتل نحو 9 آلاف جندي حتى نوفمبر (بي بي سي، 10 نوفمبر 2022). بينما قدر رئيس مجلس قيادة الأركان في الجيش الأميركي الجنرال مارك ميلي، قتلى ومصابي الجيش الأوكراني بنحو 100 ألف (بي بي سي).
  2. مقتل نحو 40 ألف مدني في أنحاء البلاد، خصوصا الشرق والجنوب والوسط.
  3. نحو 8 ملايين لاجئ خارج البلاد حسب الأمم المتحدة، وملايين النازحين داخلها.
  4. تدمير كميات كبيرة من العتاد والسلاح خصوصا المقدم من الدول الغربية.
  5. أضرار بالغة في قطاع الطاقة والكهرباء والبنية التحية للصحة والطرق والسكك الحديدية.
  6. فقدان السيطرة على محطة زاباروجيا النووية، الأكبر من نوعها في أوروبا.
  • الآثار الأساسية للحرب عالميا

تطايرت شظايا الحرب نحو آفاق بعيدة في شتى الأرجاء، مخلفة آثارا بالغة طالت الحياة اليومية لسكان معظم دول العالم، نظرا لتأثيرها على سلاسل الإمداد الغذائي، وتسببها في ارتفاع أسعار الطاقة، على وقع أجواء تعيد الذاكرة لأيام الحرب الباردة بين روسيا والغرب.

← أولا الأزمة الغذائية العالمية

أدت الحرب إلى شلل صادرات أوكرانيا من المنتجات النباتية وفي مقدمتها القمح، وذلك بسبب تعطل عمل الموانئ، فضلا عن تعثر تصدير القمح الروسي بسبب العقوبات الأوروبية والأميركية. لذلك فقدت أسواق العالم فجأة نحو ربع الإنتاج من القمح، والذي تمثله صادرات البلدين، فضلا عن أزمة كبيرة في الأسمدة الزراعية التي تصدرها روسيا، وكذلك الذرة وفول الصويا وزيت دوار الشمس وغيرها.

وبعد ستة أشهر من الحرب، وتحديدا في أغسطس 2022، تراجعت الصادرات الزراعية الأوكرانية بنحو النصف، بحسب بيانات وزارة الزراعة (وكالة رويترز، 23 أغسطس 2022)، وزاد الضغط على منتجين آخرين كالهند والصين بسبب تضاعف الطلب.

وعانت مناطق عدة في العالم من أزمات، كادت تصل لحد الوصول إلى حافة المجاعة، وكانت الدول الأقل نموا في إفريقيا وآسيا هي الأكثر تأثرا من انقطاع إمداد الغذاء، ولاسيما القمح الذي يعد المصدر الأساسي لمعظم الحاجيات الغذائية اليومية للشعوب.

وفي محاولة لتلافي كارثة تهدد العالم، توصلت روسيا وأوكرانيا لاتفاق أطلق عليه "مبادر حبوب البحر الأسود" بوساطة من تركيا والأمم المتحدة، ووقعت عليه الأطراف في اسطنبول بتاريخ 22 يوليو 2022، بهدف تسهيل نقل صادرات أوكرانيا من الحبوب والمواد الغذائية والأسمدة، من ثلاثة موانئ أوكرانية عبر ممرات آمنة تمر بتركيا.  واختارت الأمم المتحدة الأميركي فريدريك كيني لتنسيق المبادرة بوصفه معارا من المنظمة البحرية الدولية، ثم تسلم الخبير الدولي السوداني أمير محمود عبدالله المهمة؛ قبل استقالته لأسباب شخصية، واختيار الأدميرال الكويتي المتقاعد عبدالله عبدالصمد دشتي لخلافته في 28 ديسمبر 2023، (موقع أخبار الأمم المتحدة، 28 ديسمبر 2022).

لكن المبادرة تعثرت بعد فترة قصيرة على انطلاقها وتحديدا في 31 أكتوبر 2022، بسبب تعليق روسيا مشاركتها، احتجاجا على عدم حصولها على ضمانات أمنية من أوكرانيا، وعد تسهيل تصدير الأسمدة والمواد الغذائية الروسية، التي تواجه عقوبات من الغرب. وقالت إنها لن تعود للاتفاق على أساس الشروط السابقة، وإثر ذلك قفز سعر القمح مرتين متتاليتين بنحو 14% (العربية نت، 1 نوفمبر 2022)، كما ارتفعت أسعار الذرة وزيت فول الصويا.

وبعد ثلاثة أيام من تعليق مشاركتها، عادت روسيا للاتفاق في الثاني من نوفمبر 2022، بعد تلقي وزارة دفاعاها ضمانات مكتوبة من أوكرانيا بجعل الممر الآمن منزوع السلاح (وكالة الصحافة الفرنسية، 2 نوفمبر 2022). وفي السابع عشر من نوفمبر مددت الأطراف المعنية الاتفاق لأربعة أشهر، رغم عدم التوصل لتفاهم بشأن تصدير الأمونيا الروسية التي تدخل بشكل أساسي في صناعة الأسمدة، لكن روسيا كررت مرارا أنها تواجه مشكلات في التصدير بسبب العقوبات، رغم تصريح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن عقوباتهما لا تشمل الحبوب والأسمدة (روسيا اليوم، 26 أغسطس 2022). وقالت لاحقا إنها تفترض أن مطالبها بشأن تسهيل تصدير منتجاتها من الحبوب والأسمدة والمواد الغذائية، ستؤخذ بعين الاعتبار في الفترة المقبلة.

←ثانيا أزمة الطاقة

أظهرت حرب أوكرانيا، الحاجة الكبيرة والمستمرة للطاقة التقليدية، وفشل الطاقة البديلة (النظيفة) في تأمين حاجة العالم، لذلك كانت أزمة الطاقة إحدى أبرز تجليات الحرب، واتضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم سلاح الطاقة بشكل واضح لضرب خصومه.

ـ أسعار النفط والغاز

أطلقت الحرب العنان لمؤشر سعر النفط والغاز عالميا ليترفع بشكل كبير، بسبب كون روسيا هي ثاني مصدر للنفط الخام في العالم وثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي، كما أنه مع بداية الأزمة فجرت روسيا قرارا صدم الأسواق الغربية، وهو مطالبتها "الدول غير الصديقة" بضرورة الدفع بالعملة الروسية "الروبل"، بدل الدولار أو اليورو، بسبب العقوبات والحجز على أموال روسية مودعة في بنوك غربية. واضطرت الدول الغربية لبدء عمليات كبيرة لشراء الروبل، ضاخة أموال طائلة في أسواق روسيا ومنعشة قيمة عملتها، وقطعت روسيا الإمداد عن دول لم تدفع كما طلبت موسكو.

ووصلت توقعات إيرادات روسيا من بيع الغاز للدول الأوروبية خلال العام 2022، لأكثر من 100 مليار دولار بحسب بعض التقديرات (روسيا اليوم، 20 مايو 2022)، وهو ضعف ما كان عليه في عام 2021، وذلك بمعدل تحويلات يومية تبلغ 200 مليون دولار إلى شركة "غازبروم" الروسية.

وشهدت أسعار الغاز قفزة كبيرة بنحو 27% حتى 27 ديسمبر 2022 (موقع الطاقة.نت)، لكن في وقت سابق شهدت ارتفاعا بنحو 430% في المائة مقارنة مع بداية العام (نحو 367 دولارا لكل ميغاوط/ساعة)، وذلك بعد قطع روسيا للإمداد نحو بولندا عبر خط "يامال" وقطع الإمداد عن "نورد ستريم1"

وبلغ سعر النفط الخام مستوى قياسيا عند 128 دولارا في مارس 2022، وهو الأعلى منذ 2008، مما أدى لأزمات في دول عدة، في مقدمتها الولايات المتحدة، التي ارتفع فيها سعر المشتقات النفطية بشكل كبير، رغم كونها المنتج الأول للنفط في العالم (أكثر من 16 مليون برميل)، لكنها مع ذلك تعد أكبر مستهلك للنفط يوميا، وثاني مستورد للنفط الخام بعد الصين.

وبلغ متوسط سعر برميل خام برنت على مدى العام، 103 دولارات وهو أعلى متوسط منذ 2013 (العربية نت، 26 ديسمبر 2022) وعاد السعر ليثبت في حدود 80 دولارا، وهو سعر في كل الأحوال يعد مرتفعا قياسا لمستوى الهبوط الذي بلغته الأسعار سابقا خصوصا بسبب الإغلاق الذي أعقب تفشي فيروس كورونا.

ـ معاناة أوروبا

ظلت دول الاتحاد الأوروبي طيلة العام المنصرم، تعيش حالة مشتتة بين التوجه لدعم أوكرانيا عسكريا وماليا، والحفاظ على إمدادات النفط والغاز من روسيا التي يعتمد عليها الاقتصاد والصناعة وحياة الناس.

وقبل يومين من بدء الحرب أعلنت ألمانيا وقف إجراءات اعتماد أنبوب الغاز "نورد ستريم2" الذي لم يكتمل بعد (دويتشه فيله، 22 فبراير 2022) بعد أن شكل "نورد ستريم1" مصدرا رئيسا للغاز الروسي المصدر إلى ألمانيا ودول أوروبا، ولكن الخطين تعرضا لتفجيرات بحرية غامضة في أواخر سبتمبر 2022، اتهمت روسيا بريطانيا بتدبيرها، فيا قالت الدول الغربية إن روسيا هي من نفذ التفجيرات للضغط على الأوروبيين. وقبل تلك التفجيرات أوقفت روسيا ضخ الغاز عبر "نورد ستريم1" في أوائل سبتمبر "حتى إشعار آخر" نظرا لما قالت إنه أعمال صيانة، وهو ما جعل أوروبا تهرول بحثا عن مصادر بديلة وتحديدا في آسيا وإفريقيا ودول البحر المتوسط، ودعم الاستثمار في الاكتشافات الجديدة.

ورغم الإعلان عن نية الاتحاد الأوروبي حظر المشتريات النفطية من روسيا بنهاية العام، إلا أن القرار كان متسرعا على ما يبدو بسبب عدم وجود بدائل، ثم قبل أن تلجأ الدول الأوروبية ومعها مجموعة السبع لتحديد سقف أعلى لسعر النفط الروسي بـ60 دولارا، لكن روسيا ردت سريعا على القرار بحظر تصدير النفط إلى الدول التي حددت سقفا للسعر، اعتبارا من فبراير 2023، وهو ما قد يضطر هذه البلدان في النهاية لشراء النفط الروسي عبر وسطاء وبسعر على من معدل السوق.

وبحسب بعض الإحصائيات، فقد بلغت خسائر أوروبا في أزمة الطاقة نحو ما بين 200 مليار إلى ترليون دولار، بسبب زيادة سعر الطاقة بأكثر من 27%. وارتفعت توقعات صندوق النقد الدولي لنفقات المعيشة في الدول الأوروبية للعام المقبل بـ9%، وأظهرت معطيات هيئة الإحصاء الأوروبية أن مؤشر أسعار المستهلكين تراجع بشكل كبير بنحو 10% في نوفمبر، وفضلا عن ذلك توقع البنك المركزي الأوروبي انكماشا اقتصاديا وخفّض توقعات النمو للسنة المقبلة.

ـ الضغط على الدول المنتجة

قادت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حملات واسعة في مختلف أنحاء العالم، استهدفت الدول المنتجة للنفط والغاز، في محاولة للمزج بين سياسية الضغط والليونة الدبلوماسية، فالولايات المتحدة يهمها بشكل أساسي زيادة إنتاج النفط لتتراجع أسعار مشتقاته للمستهلكين لديها، أما أوروبا فتولي اهتماما أكبر للغاز.

وفي هذا الإطار جال قادة أوروبيون في دول منتجة للنفط والغاز، في مسعى لإبرام صفقات والحصول على جزء إضافي في الحصة التصديرية.

لكن الأبرز في هذا المجال، كان زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للملكة العربية السعودية في يوليو 2022 وعقده قمة مصغرة مع عدد من دول المنطقة، وكان موضوع المطالبة بزيادة إنتاج النفط على رأس أولويات أجندته.

ولم تفلح محاولات المطالبات والضغط في إحداث تغيير في مستوى الإنتاج، بل على العكس التزمت الدول المنتجة للنفط بالسقف الذي حددته "أوبك+"، بل إن هذا التكتل اتخذ قرارا في مطلع أكتوبر 2022 بخفض الإنتاج بمليوني برميل يوميا، وصعق القرار القيادة الأميركية، قبل أيام من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، ما دفع الرئيس جو بايدن للإعلان عن خطة لمراجعة العلاقات مع السعودية.

كما أن الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" و"أوبك+" رفضت بشكل تام اتخاذ مواقف مناهضة لروسيا سياسيا واقتصاديا، بل إن العلاقات مع موسكو تعززت وكان بعض هذه الدول ملاذا لرجال الأعمال والمواطنين الروس الهاربين من العقوبات والضغوطات الغربية.

  • بوادر انقسام أميركي ـ أوروبي

أدت الخلافات بشأن إدارة أزمة الطاقة والعلاقات مع روسيا إلى خلافات عميقة داخل الكتلة الأوروبية، تجلت بشكل أساسي في المواقف المتباينة من استمرار استيراد النفط الروسي، وتحديد سقف أعلى لسعره.

وظهرت الخلافات بين الدول القيادية في الاتحاد من جهة، ودول شرق أوروبا من جهة أخرى.

لكن حتى ألمانيا و فرنسا وهما أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، وصلت الخلافات بينهما بشأن التعامل مع الأزمة الناتجة عن الحرب، حدا بعيدا دفع بعض الخبراء للتحذير من تهديد يواجه تماسك الاتحاد الأوروبي(دوتشيه فيليه، 29 أكتوبر 2022)، فقد احتدت "الأزمة الصامتة" بين البلدين بسبب مواقفهما من أزمة الطاقة والنمو في أوروبا.

وانتقلت عدوى الخلافات إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تعززها حرب تجارية بين الطرفين، بسبب دعم الرئيس الأميركي لشركات بلاده عبر توقيعه على "قانون خفض التضخم" المعروف باسم IRA، والذي يدعم الشركات الأميركية في منافستها السوقية مع نظيراتها في أوروبا مما يخلق فرصا غير متكافئة،  ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوصف القانون بأنه "عدواني جدا تجاه الشركات الأوروبية" (رويترز، 2 ديسمبر 2022)، وهذا القانون ليس إلا انعكاسا لتأثيرات الحرب على الاقتصادات العالمية الكبرى.

لكن الخلافات الموجودة تحت الرماد، قد تصل إلى مستوى أبعد مع استمرار الحرب في أوكرانيا، والتي طالما لمّحت أطراف أوروبية إلى مساع أميركية لإطالتها، بهدف إضعاف روسيا ورئيسها، وكذلك للاستفادة من بيع الغاز الأميركي لأوروبا.

  • متغيرات جيوسياسية

أفرزت النتائج الأولية للحرب في أوكرانيا، تحولات واضحة في التعاطي السياسي عالميا، وخصوصا في ما يتعلق بالعلاقات الدولية، وكذلك عودة الحديث عن عالم متعدد الأقطاب.

- التحولات القطبية

أطلق الرئيس الروسي في العشرين من سبتمبر 2022، تصريحات خلال استقبال عدد من السفراء الجدد في بلاده، قال فيها إن العالم المعاصر يتجه نحو تعدد الأقطاب (روسيا اليوم، 20 سبتمبر 2022)، بل وأوضح أن النظام العالمي الجديد بدأ في التبلور على أساس القانون الدولي، بما يضمن الاحترام والتنسيق بين الدول كافة.

وعاد ليخاطب القمة العربية في الجزائر (نوفمبر 2022) قائلا إن الدول العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لها دور مهم في بناء عالم متعدد الأقطاب.

لكن المفاجئ كان حديث المستشار الألماني أولاف شولتز أمام منتدى دافوس في سويسرا (مايو 2022)، عن "تعدد الأقطاب" وهو ما يفسر تطلعا أوروبيا كذلك للخروج من ظل العباءة الأميركية، والاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب سياسيا واقتصاديا.

وهنا يبرز القلق الأميركي، ليس من مواقف روسيا وبعض الأطراف الأوروبية فحسب، وإنما من الصين التي باتت طموحاتها الاقتصادية تجتاح العالم، ووصفها التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأميركية (نوفمبر 2022) بأنها أكبر خطر يهدد الولايات المتحدة، قائلا إنها تزيد نشاطاتها العسكرية وتعتزم امتلاك مئات الرؤوس النووية بحلول العالم 2030.

كما اعترف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مايو 2022، خلال خطاب في جامعة جورج واشنطن، بأن الصين تشكل تهديدا على النظام الدولي في الأمد الطويل، وأنها الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام العالمي عبر القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، مطالبا بضرورة "تفكيك البنية الأساسية حول الصين، لتعزيز رؤية واشنطن بشأن نظام دولي مفتوح وشامل من خوض حرب بادرة جديدة"  مقرا في الوقت ذاته بعجز الولايات المتحدة عن تغيير توجه الصين وطموحات رئيسها شي جين بينغ (رويترز، 26 مايو 2022). 

- تغير الخارطة السياسية الدولية

كسرت تداعيات الأزمة الأوكرانية، بعض الأعراف في علاقات الدول، فمثلا برزت الهند وبعض الدول العربية والإفريقية الوازنة بمواقف متوازنة أحيانا ومائلة إلى روسيا في بعض الأوقات، بل وداعمة أحيانا، ولم تتخذ دول عدة ظلت تصنف على أنها حليف تقليدي للولايات المتحدة، مواقف مناهضة للحرب الروسية على أوكرانيا.

هذا التوازن الصعب في موازين العلاقات، كان مدفوعا بالأساس بمصالح اقتصادية واضحة، في مقابل تهاون الولايات المتحدة في التعامل مع الحلفاء في أوقات سابقة، ومحاولتها الضغط عليهم لاتخاذ مواقف سياسية واقتصادية تخدم مصلحتها بالدرجة الأولى.

  • استشراف المستقبل

يبدو مستقبل الأزمة في أوكرانيا، مرهونا بعوامل عدة قد تكون حاسمة في مصير الحرب ونتائجها، في مقدمة هذه العوامل الهجوم الروسي الذي يلوح في الأفق خلال الربيع والصيف ونتائجه، وكذلك مدى استمرار الولايات المتحدة وأوروبا في تسليح أوكرانيا لاسيما بالصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي، ومن ثم استمرار الجيش الأوكراني في الاندفاع القتالي، وآخر هذه العوامل هو تأثّر الدول الغربية بأزمة الطاقة وتداعياتها. 

وقد تشهد المرحلة المقبلة هدنة قصيرة لالتقاط الأنفاس والعودة إلى طاولة المفاوضات التي جلس حولها الجانبان الروسي والأوكراني في بيلاروسيا وتركيا خلال الأسابيع الأولى من الحرب، لكن تلك الهدنة قد لا يكون قبل التصعيد المرتقب في الربيع والصيف.

بوتين قال بشكل صريح إن روسيا مستعدة للتفاوض مع الجميع "بشأن حلول مقبولة" (رويترز، 25 ديسمبر 2022)، لكنه اتهم أوكرانيا وحلفاءها الغربيين برفض التفاوض.

عقب تلك التصريحات أعلنت الرئاسة الروسية رفض الخطة الأوكرانية التي يدور حديث بشأنها، وقالت إن أي اتفاق سلام يجب أن يعترف بضم روسيا للمناطق الأربع: دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، عبر استفتاء سبتمبر 2022، فيما تذهب الطموحات الأوكرانية أبعد، إذ تسعى لاستعادة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا سنة 2014، فضلا عن المناطق الأربع الأخرى.

- خطة زيلينسكي

قدم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خطة للتسوية في نوفمبر 2022، وبحث تفاصيلها مع الرئيس الأميركي بايدن خلال زيارته لواشنطن في 21 ديسمبر، وحث قادة العالم على ضرورة دعم عقد قمة للسلام ترتكز على هذه الخطة.

وتتضمن خطة زيلينسكي عشر نقاط تتعلق بتوفير الطاقة والأمن الغذائي وضمان سلامة الطاقة النووية، وبناء هيكل أمني أوروبي لتقديم ضمانات أمنية، فضلا عن إطلاق سراح الأسرى وتأسيس محكمة دولية لجرائم الحرب وانسحاب القوات الروسية وعودتها لما وراء الحدود الدولية، ويبدو أن روسيا ـ كما أعلنت فعليا ـ لن تقبل بجزء كبير من نقاط الخطة الأوكرانية.

- توقعات ميدفيديف

تزامنا مع تصريحات القيادة الروسية بشأن قبول التفاوض، فاجئ نائب رئس مجلس الأمن الروسي ديميتري ميدفيديف، العالم بتوقعاته للعام المقبل (2023) عبر سلسلة تغريدات على موقع توتير، كان لافتا من بينها توقعه بارتفاع سعر النفط إلى 150 دولارا للبرميل وسعر الغاز إلى 5 آلاف دولار لكل ألف متر مكعب، ما يعني استمرار بل وزيادة تأثير الحرب، وتوقع كذلك احتلال بولندا والمجر للمناطق الغربية من أوكرانيا.

أما بقية التوقعات فبدت وكأنها في جانب منها تمثل سخرية من العالم الغربي، أو هي "أمنيات"،  من بينها انهيار الاتحاد الأوروبي واندلاع حرب أهلية في الولايات المتحدة وانفصال أيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، وقيام نظام "الرايخ الرابع" في ألمانيا ودول من شرق أوروبا، واندلاع حرب بين "الرايخ" وفرنسا.

ولم تحمل لغة الرجل الذي تولى سابقا رئاسة روسيا ورئاسة مجلس وزرائها، أملا كبيرا في تحقيق السلام أو إنهاء الحرب المشتعلة، بل إن توقعاته التي ذهبت بعيدا، توحي باستمرار حالة العداء والمواجهة بين روسيا وأوكرانيا وداعميها الغربيين.

- رؤية كيسنجر

وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بعد أثار ضجة في مايو 2022، باقتراحه تنازل أوكرانيا عن أراض لصالح روسيا من أجل إنهاء الأزمة، عاد قبل أيام بنظرة متشائمة قائلا إن الحرب قد تدخل مرحلة "اللاعودة" في عالم يعيش "كارثة" تجعله يمر بإحدى أخطر مراحله في القرن الواحد والعشرين.

وسابقا (يوليو 2022) وضع كيسنجر ثلاثة سيناريوهات للحرب خلال الفترة المقبلة، وهي:

  1. احتفاظ روسيا بنحو 20% من الأراضي الأوكرانية، والتي تضم أبرز المناطق الصناعية والزراعية، وسيكون ذلك انتصارا لها، وانحسارا لدور حلف شمال الأطلسي "ناتو".
  2. محاولة أوكرانيا بدعم من "ناتو"، طرد الجيش الروسي من الأراضي التي سيطر عليها، وفي هذه الحالة ستزيد مخاطر دخول الغرب في مواجهة مباشرة مع الروس.
  3. تجميد النزاع لفترة معينة والعودة إلى ما قبل 24 فبراير 2022، وفي هذه الحالة سيعيد الغرب تسليح أوكرانيا، وسوف ترتبط مع الناتو بشكل وثيق ينتهي بانضمامها له.

ـ أبرز السيناريوهات المتوقعة

من قراءة مواقف البلدين المنخرطين في النزاع، والدول التي تعنى به بشكل مباشر وغير مباشر، يمكن تلخيص السيناريوهات المتوقعة للعام المقبل (2023) في النقاط التالية.

1. الاستمرار لفترة طويلة

يبقى الاستمرار بالحرب لفترة طويلة مرهونا بتسليح الطرفين واستعدادهما لخوض المزيد من المعارك المستنزفة، والتضحية بأعداد جديدة من الجنود، أملا في الوصول للنصر المأمول ولو طال الزمن.

2. استمرار الحرب لغاية نهاية الصيف

يجمع العديد من المعنيين بالملف، أن روسيا تخطط لخوض معارك طاحنة مع بدايات الربيع، وقد يكون من بينها محاولة اقتحام العاصمة كييف مجددا، والسيطرة على السلطة بشكل مباشر، وذلك سيمثل تحولا كبيرا في الموازين، خصوصا في حال القبض على الرئيس الأوكراني أو خروجه من البلاد.

3. تنازلات كبيرة

رغم أنها مستبعدة في الظروف الحالية، إلا أن تقديم الطرفين أو أحدهما لتنازلات "مؤلمة" وكبيرة، قد يشكل مفاجأة في العام المقبل، مع أن الغرب من الصعب أن يتيح الفرصة لروسيا لتحقيق مآربها ميدانيا، وقد عبرت أكثر من حكومة غربية عن برمجة مساعدات مالية وعسكرية كبيرة للحكومة الأوكرانية خلال العام المقبل.

4. هزيمة واضحة

في حال تعرض أحد الطرفين لهزيمة واضحة ولا غبار عليها، تجعل تحركه ميدانيا يتوقف لدرجة الاستسلام بالنسبة لأوكرانيا أو الانسحاب بالنسبة لروسيا، وعندها قد يؤثر ذلك بشكل سريع ومباشر وواضح على موازين القوى بين روسيا والغرب.

5. وساطة دولية

منذ بداية الحرب، لم يتوقف الحديث عن وساطة دولية لإنهاء الأزمة، ورغم المحاولات التي جرت في بيلاروسيا وتركيا عبر جلسات المحادثات، إلا أنها لم تحقق نتائج واضحة.

وتبدو المشكلة الكبرى هنا، تتعلق بالأطراف الدولية التي يثق فيها الطرفان، وهنا يُستبعد إمكانية قيام وساطة أميركية أو أوروبية، ويبقى احتمال القيام بمبادرة تقودها دول أخرى ذات علاقات متوازنة بمختلف الأطراف مطروحا.

403