منذ اندلاع النزاع في 15 أبريل، لم يفِ طرفا القتال في السودان بتعهدات متكررة بهدنة ميدانية تتيح للمدنيين الخروج من مناطق القتال أو توفير ممرات آمنة لإدخال مساعدات إغاثية، فيما تظهر ملامح حرب أهلية في الأفق. بعدما لاقت الهدن الموقتة التي أبرمت بوساطة سعودية-أميركية بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، تجاهلا كاملا على الأرض.
الرياض وواشنطن دعتا طرفي النزاع في السودان للعودة إلى طاولة المفاوضات من أجل التوصل إلى وقف جديد لإطلاق النار، قبل يومين من زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى السعودية. وبحسب بيان نشرته وكالة الأنباء السعودية "واس" الاحد، ما زال وفدا القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع "موجودين في مدينة جدة، رغم تعليق المحادثات وانتهاء وقف إطلاق النار لمدة خمسة أيام". وقال البيان إنّ "الميسرَيْن (السعودية والولايات المتحدة) على استعداد لاستئناف المحادثات الرسمية"، كما يدعوان "الطرفين إلى اتفاق على وقف إطلاق نار جديد، وتنفيذه بشكلٍ فعال بهدف بناء وقف دائم للعمليات العسكرية".
كان الجيش أعلن في الثالث من مايو تعليق مشاركته في محادثات جدة واتهم قوات الدعم بعدم الإيفاء بالتزاماتها باحترام الهدنة والانسحاب من المستشفيات والمنازل. وأعقب ذلك تأكيد الوسيطين السعودي والأميركي تعليق المحادثات رسميا. وأبدت الولايات المتحدة استعدادها لاستئناف المحادثات في جدة مع قادة المعسكرين المتحاربين في السودان في حال توافرت نيات "جدية" على صعيد الالتزام بوقف النار.
والخميس، الرابع من يونيو الجاري اعلن البيت الابيض أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات اقتصادية جديدة وقيودا على التأشيرات "بحق الاطراف الذي يمارسون العنف" في السودان، وذلك بعد انسحاب الجيش من المفاوضات الأخيرة مع قوات الدعم السريع واتهامه بقصف منطقة سوق قديم في العاصمة.
تعبئة عرقية
من الواضح أن استمرار الحرب والإصرار على مواصلتها من قبل الطرفين، يعني تحولها من حرب بين الجيش والدعم السريع إلى قتال على أساس عرقي، وهذا ما حذر منه رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيرتس لدى احاطته مجلس الأمن في جلسته الأخيرة بخصوص السودان في نيويورك بتاريخ (23 مايو 2023).
وبالفعل بدأت الحرب في السودان تسير على أربع نحو القبلنة. حيث أيدت قبيلتان على الأقل قوات الدعم السريع، فيما قدمت قبائل من شرق وشمال ووسط السودان المعونات إلى الجيش، مما عزز مخاوف أن ينحو هذا الدعم إلى مشاركة فعلية في القتال. ووجود بوادر مقلقة تتعلق بالتعبئة القبلية لم يقتصر على ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بل انضمت المليشيات القبيلة إلى القتال بعد تصاعد الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، فيما حمل المدنيون السلاح للدفاع عن أنفسهم...
في المقابل رسخت دعوة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي في الـ(28 مايو) الماضي لتحذيرات فولكر ومخاوفه من الحرب الأهلية في السودان، حيث دعا مناوي مواطني دارفور إلى حمل السلاح، على أن تساندهم الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا في الدفاع عن ممتلكاتهم.
أثارت دعوة مناوي القلق كونها تزامنت مع استنفار وزير الدفاع لمتقاعدي الجيش والقادرين على حمل السلاح للذهاب إلى المناطق العسكرية بغرض تسليحهم لحماية أنفسهم وجيرانهم والعمل وفق خطط هذه المناطق، وهو ذات الأمر الذي فعلته الشرطة في اليوم التالي.
وفسر مراقبون حديث وزارة الدفاع وقوات الشرطة إنه استعداد لتسليح المدنيين، في أعقاب دعوات صادرة من قوى سياسية مناصرة للجيش وأنصار النظام السابق بتسليح المواطنين للقتال ضد الدعم السريع التي تسيطر على معظم أحياء العاصمة الخرطوم.
وبرر دعوته بتضاعف الاعتداءات على المواطنين، في ظل عدم رغبة الكثير في سلامتهم وحقوقهم، وتعمد تخريب المؤسسات القومية فيما تعيش مدن الفاشر بشمال دارفور والجنينة بغرب دارفور وزالنجي بوسط دارفور، في حالة اقتتال دامٍ وسط مخاوف من تحوله إلى نزاع أهلي، وتبدى ذلك جلياً في حاضرة غرب دارفور التي ظلت تشهد قتالاً بين الفينة والأخرى بين قبيلة المساليت الأفريقية والقبائل العربية (أم جلول- كدابة).
تعدد في القبائل
تشير الكاتبة منى عبدالفتاح في مقال نشرته بموقع اندبندنت عربية، إلى أن السودان يتكون من حوالى 600 قبيلة بتجمعاتها الفرعية وإثنياتها المختلفة، وإذ بدت التعددية الإثنية كظاهرة تبعها تنوع وتباين ثقافي وديني، أشعل سؤال الهوية الذي بدأ بانقسام المثقفين ومنهم دعاة العروبة من جهة، ودعاة الأفريقانية من جهة أخرى، وألقى ذلك بظلاله على الواقع السياسي، واستقطب متعاطفين مع قضية الجنوب. لكن لم ينته سؤال الهوية بانفصال الجنوب وإنما انتقل إلى مواقع أخرى منها دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، (اندبندنت عربية، 17 مايو 2023)
ولم تقف حدة الصراع في مناطق التهاب النزاع فحسب بل امتدت لتشمل المثقفين والنخب حيث بات خطاب الكراهية هو السائد والوسيلة الأسرع للاستقطاب والحشد، وظهر ذلك جلياً من خلال النزاع الحالي حيث يُصور كثير من الناشطين في (السوشيال ميديا) أن حقيقة الصراع هي بين أولاد البحر (أبناء الولايات الشمالية) وأولاد الغرب (دارفور – كردفان) ، وهذه التصورات منبعها قديم منذ العام 1881 عند اندلاع الثورة المهدية في السودان بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي الذي انتصر على الأتراك وأسس الدولة المهدية ولكن ما أن فارق المهدي الحياة وخلفه عبدالله التعايشي حتى دبت الخلافات بين (أولاد البحر والغرب) ومنذ تلك الفترة ظل البعض يحاول النفخ في نار هذه الخلافات حتى تعود مرة أخرى السطح.
استقطاب قبلي
القائدان (البرهان – حميدتي) عملا من نظام عمر البشير البائد وكلاهما يتوهم أن تعزيز السيطرة على مقاليد الحكم في السودان يقوم على ركيزة أساسية وهي استقطاب زعماء الإدارة الأهلية، وتعود قناعتهما لاستخدام نظام الإخوان بقيادة البشير الإدارة الأهلية في التحشيد السياسي ودعم حروبه في دارفور وجنوب السودان. شاهد العدل على ذلك هو أن الجنرالين انقلبا على السلطة المدنية في أكتوبر 2022م واعتمدا على تأييد زعماء القبائل، وبالرغم من تصدي الثوار لهذا الانقلاب وفشله. إلا أن البرهان وحميدتي عادا لذات الحاضنة الاجتماعية في صراعهما الحالي (زعماء العشائر) في مظنة منهما أنهم عاملاً مهماً وأساسياً لتحقيق الانتصار، فتجد البرهان يرسل رسائل مبطنة لحميدتي من ولاية نهر النيل خلال مشاركة زواج لأهله وعشيرته الأقربين، في المقابل يجزل الثاني الهدايا لزعامات من الإدارة الأهلية.
هكذا غرق زعماء الإدارة الأهلية في الصراع، وعندما استفحل زادت حدة الاستقطابات ووصلت لدرجة الإعلان عن تأييد الزعماء لأحد الطرفين صراحة. تجسد ذلك في موقف قبيلتي المسيرية والترجم اللتان انحازتا إلى قوات الدعم السريع، فيما بدا ناظر عموديات البجا بشرق السودان محمد الأمين ترك من أبرز المؤيدين للبرهان الذي يجد التأييد من قبائل الجعليين والشايقية في شمال السودان، ليعلن ناظر الهمج المك أبوشوتال بولاية النيل الأزرق انضمامه إلى الدعم السريع.
خلاصات
من الواضح أن الوساطة السعودية الأمريكية لم تحدث خرقاً في الأزمة، بالرغم من توقيع الطرفين على أكثر من 7 هدن لأن البرهان وحميدتي ما زلا يصران على حسم المعركة عسكرياً، وهذا يفرض الواقع المقلق الذي حذر منه فولكر بيرتس، فاستمرار الحرب الحالية من دون أن ينتقل الجميع إلى التفاوض السياسي، سيدفع ذلك البلاد إلى الحرب الأهلية التي ستأخذ مكانها وتتبلور مع مرور الوقت، ومع ترسخ مواقع الفريقين وقدراتهما.
وفي المقابل كلما طال أمد الحرب الحالية، تحوّلت مساعي القوى الخارجية من سعي إلى وقف لإطلاق النار، إلى اصطفاف خلف هذا الفريق أو ذاك ضمن لعبة التنافس على انتزاع حصة من النفوذ في بلد يدمره النزاع العسكري الدموي.
من جانب آخر ظلت الأحزاب السودانية هي صمام الأمان من انزلاق السودان نحو الحرب الأهلية، ولكن يقود الإخوان (أنصار نظام البشير) حملة شرسة لتحييدها في الصراع، فهم يراهنون على عدم عودة العسكر للثكنات وإعادة مجدهم التليد بالسيطرة على مفاصل الحكم عن طريق عناصرهم بالجيش، لذلك يخشون من الأحزاب لأنها الوحيدة القادرة على تعبئة الجماهير وإعادة زخم الشارع السوداني إلى اللعبة وهو ما أسقط نظام البشير
ويرى مراقبون أنه إذا ظل التوازن العسكري قائماً إلى حد ما بين طرفي النزاع في السودان، فإن البلاد تسير على حافة الحرب الأهلية الطويلة الأمد، خاصة أن مساحة السودان كبيرة للغاية، وبغياب الحسم في المدى القصير، ستنشأ وقائع تقسيمية على الأرض ويحصل فرز جغرافي وسكاني تبعاً لسيطرة هذا الفريق أو ذاك. ولعل خطورة إطالة أمد القتال الحالي مردها إلى أن للسودان حدوداً مترامية مع عشر دول أفريقية معظمها غير خاضع لأي سلطة رسمية. إنها حدود متروكة ومتفلتة إلى حد أنها تمثل خطراً كبيراً على وحدة السودان إذا طالت الحرب الحالية. عندها ستكون هذه الحدود معبراً لتدفق السلاح والمال، ومعهما الميليشيات، والعصابات، والجماعات المتطرفة، فضلاً عن قوات مسلحة من دول الجوار الطامعة بتوسيع نطاق نفوذها على حساب سودان مستضعف.