
في محاولة لإيقاف ترشح محتمل للرئيس السنغالي "ماكي سال" في انتخابات عام 2024، حشدت المعارضة السنغالية أكثر من 120 حزبا وجماعة سياسية ومنظمة مجتمع مدني، ووقعوا في شهر إبريل الماضي ميثاقا سياسيا ضد ترشحه. وقد سبق ذلك، ولأكثر من عامين، احتجاجات في شوارع العاصمة داكار تتهم الحكومة بأنها تقمع المعارضين وتنكيل بهم، لإفساح المجال للرئيس حتى يحقق طموحاته في ولاية ثالثة، تعرضت السنغال خلالها لاضطرابات لم تشهد مثلها منذ سنوات، بعد أن كان يضرب بها المثل في الاستقرار والأمان.
مؤخرا، شهدت السنغال بين الأول والثالث من يونيو الجاري، أسوأ اضطرابات منذ سنوات بعد الحكم على المعارض "عثمان سونكو" بالسجن لمدة عامين في فضيحة جنسية.
الدولة الأكثر استقرار في غرب إفريقيا
تعد السنغال إحدى الديمقراطيات الانتخابية الأكثر استقرارا في منطقة غرب إفريقيا المضطربة تاريخيا، وواحدة من الدول القليلة التي لم تشهد انقلابا أو استيلاء قسريا على السلطة منذ الاستقلال، حتى أنها قدمت نموذجا فريدا لتداول السلطة في القارة، حتى تم وصفها بأنها "واحة الديمقراطية في إفريقيا". وقد قلل ذلك كثيرا من تعرضها لمخاطر الحركات الانفصالية، حتى أنها على مؤشر الأخطار لموقع Crisis24 تصنف حتى عام 2022 كدولة إفريقية "متوسطة الأخطار" (Crisis24: 12 April 2022).
حصلت السنغال على استقلالها عن فرنسا في عام 1960، وأصبحت جزءا من اتحاد مالي (السودان الفرنسي). ولأن الاتحاد كان قصير الأجل، أعلنت السنغال الاستقلال عنه في سبتمبر 1960، ليصبح "ليوبولد سنغور" أول رئيس للبلاد، والذي تنازل عن الرئاسة بمحض إرادته لتلميذه "عبدو ضيوف" في عام 1980 (Washington Post: 1 January 1981)، وقد استمر رئيس للبلاد لفترة امتدت حتى عام 2000، أسس خلالها نظاما ديمقراطيا قائما على المنافسة الحزبية العادلة.
وكما تولاها "عبدو ضيوف" سلميا، تركها طواعية في الانتخابات الرئاسية لعام 2000 لصالح رئيس الحزب السنغالي الديموقراطي "عبد الله واد ضيوف" (Independent Online: 2 April 2000)، ليستمر مع حزبه في السلطة لفترتين رئاسيتين امتدتا حتى عام 2012. وحاول "واد" الحصول على فترة رئاسية ثالثة، لكن المعارضة صدت طموحاته بعد احتجاجات دامية، لتنتقل السلطة في الجولة الثانية من انتخابات عام 2012 إلى "ماكي سال" (BBC: 26 March 2012).
انقلاب الرئيس على المعارضة
على الرغم من أن السنغال خضعت لانتقال سلمي للسلطة بين الأحزاب المتنافسة منذ عام 2000، لكن خلال السنوات الأخيرة أسس "ماكي سال" حالة جديدة لم يتعود عليها السنغاليون منذ استقلال دولتهم، من الملاحقات القضائية ذات الدوافع السياسية لقادة المعارضة، بالإضافة إلى تقييد حرية الصحافة وإحداث تغييرات في القوانين الانتخابية، وقد أدى ذلك إلى تقليص القدرة التنافسية للمعارضة، التي أسس دعائمها الرئيس الأسبق "عبدو ضيوف"، فضلا عن اهتمام تقارير المنظمات الحقوقية الدولية بالحالة السياسية في السنغال، حيث تم تصنيف السنغال بأنها حرة جزئيا بنسبة 68% في تقرير مؤسسة فريدوم هاوس للحريات والحقوق السياسية لعام 2022، ثم تقلصت النسبة إلى 60% في عام 2023 (Freedom House: 2022&2023 Senegal Country Reports).
كان الرئيس في الدستور السنغالي يتولى رئاسة الحكومة، ويُنتخب مباشرة لفترتين متتاليتين كحد أقصى. وفي عام 2016، أيد "سال" تخفيض الولاية الرئاسية من سبع سنوات إلى خمس سنوات، على أن يسري التخفيض بعد انتهاء ولايته في انتخابات عام 2019 (صحيفة المصري اليوم: 5 مايو 2019)، التي فاز فيها. لكن المعارضة شككت في النتيجة بعد استبعاد مرشحيها الرئيسيين "خليفة سال" و"كريم واد" بواسطة المجلس الدستوري الذي حكم بأنهما غير مؤهلين للترشح لإدانتهما في قضايا فساد، ولكن بعد إعلان النتيجة أكد المراقبون الدوليون مصداقية الانتخابات (France 24: 14 Jan. 2019).
ولضمان ترشح "سال" لفترة ثالثة، وافق المشرعون على إصلاح دستوري مثير للجدل ألغى منصب رئيس الوزراء، مما أثار غضب المعارضة التي اتهمته بالسعي لتوطيد سلطته (صحيفة الشرق الأوسط: 18 إبريل 2019). لكن الرئيس "سال" تراجع عن هذا القرار في عام 2021، بحجة وجود ضرورات لإنعاش الاقتصاد الوطني (Euro News: 11 Dec. 2021)، ومن الواضح أن إعادة المنصب كان في سياق سياسي واجتماعي دقيق، بعد أن واجه الرئيس احتجاجات في مارس 2021، في وقت لم تتحسن بعد ظروف الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19.
ولكن على الرغم من اتهام المعارضة للسلطات باستخدام جهود مكافحة الفساد كوسيلة لقمعها، فقد أحرزت الحكومة السنغالية في عهد "سال" تقدما ملحوظا في مكافحة الفساد، بإنشاء "هيئة مكافحة الفساد" وتطوير النزاهة في الحكومة. وسعت أيضا إلى توطيد الاستثمار الأجنبي، وتحسين اقتصاد الدولة ومستوى المعيشة، وتحسين خدمات الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة، فضلا عن تطوير البنية التحتية ببناء الطرق والجسور وتوسيع شبكة النقل العام. بالإضافة إلى إجراء إصلاحات شاملة في القوانين الانتخابية. كما أعطى الرئيس الأولوية لتعزيز الاستثمار الخاص بتقديم الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز الشمول بإجراءات تضمن تقاسم الثروة والتنمية بطريقة عادلة، وتحفيز التعاون بين المواطنين في مجالات الزراعة والصناعة والأعمال المدنية (ملخص بيانات منظمة التعاون الإسلامي عن التنمية في السنغال: 14 يونيو 2022).
كذلك عملت الدولة في عهد "سال" على مواجهة الجماعات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية التي استهدفت السنغال في أعقاب انتشار الجماعات الجهادية في البلدان المجاورة خلال السنوات الأخيرة، ونجحت في خفض التهديد من الحركة الانفصالية التي تحاول النشاط في جنوب كازامانس، على الرغم من استمرار هجماتها المتفرقة (DW: 21 Jan. 2023).
تصاعد الأحداث
اندلعت أعنف احتجاجات مدنية شهدتها السنغال بعد رفع الحصانة البرلمانية عن زعيم المعارضة "عثمان سونكو" واعتقاله في 3 مارس 2021، بسبب اتهامه باغتصاب فتيات (BBC: 5 March 2021)، مما أسفر عن سقوط قتلى وحدوث إصابات في صفوف المتظاهرين. وقد أدى ذلك إلى رفع المعارضة لسقف مطالبها، فشملت تحقيق العدالة في مقتل الشباب، وحسم جدل الولاية الثالثة (بوابة "وسطيون" السنغالية المعارضة: 13 مارس 2021). ولضمان عدم توسع رقعة الاحتجاجات، قامت السلطات بقطع الإنترنت، وتعليق البث التلفزيوني، وإغلاق المدارس. لكن الأحداث اشتعلت بعد أن أحرق الشباب مقار للشرطة العسكرية ونهبوا المباني الحكومية، ولم ينتهوا إلا بعد أن أفرج عن "سونكو" بكفالة (DW: 7 March 2021). ولكن الاحتجاجات تجددت بعد أن مددت المحكمة في مايو 2023 حكمها بسجنه في قضية الاغتصاب من شهرين إلى ستة أشهر مع وقف التنفيذ، وهو ما قد يفقده فرصة الترشح للرئاسة (CNN: 1 June 2023).
كان رد "سونكو" أن قدم استئنافا أمام محكمة النقض، ثم دعا أنصاره إلى مسيرة التحدي لداكار يوم 26 مايو، والتي أوقفتها الشرطة، فدعا المتظاهرون للعصيان المدني. وبناء على دعوة الرئيس "سال" عقدت الحكومة ومختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين في 31 مايو محادثات حوار وطني، لكن أعمال الشغب لم تتوقف، لأن قاضي النقض حكم ببراءة "سونكو" من تهمة الاغتصاب، لكنه أدانه بتهمة إفساد الشباب، وحكم عليه بالحبس لمدة سنتين نافذتين، وغرامة بقيمة 20 مليون فرنك (RFI: 1 June 2023).
مع تصاعد الأحداث إلى هذه الدرجة رأى الباحث السنغالي "عليون تاين" مؤسس مركز أفريكاجوم في مقابلة صحافية أن السنغال تعيش حالة التهديد بالحرب الأهلية. ويحذر خبراء سنغاليون آخرون من استمرار العنف، فقد لا يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار البلاد فحسب، بل قد يكون أيضا انفتاح على العنف الجهادي الذي عصف بمعظم بلدان المنطقة (AP: June 6, 2023).
ومع خفض وتيرة العنف في الشارع السنغالي بعد تدخل رجال الدين، بدأ العقلاء في مناشدة الرئيس لحل الأزمة. فدعاه الكاتب الصحفي "فاضل غيي" إلى التفكير في وضع حل عاجل بعيد عن التجاذبات السياسية، فهو رئيس الجمهورية الذي تقع على عاتقه مسؤولية الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها. وناشد "غيي" السياسيين قائلا "يقيني أن الواجب يفرض عليكم عقد اجتماع عاجل بين معسكر السلطة ومعسكر سونكو، فالصلح ليس مستحيلا" (فاضل غيي: صحيفة رفي داكار السنغالية، 6 يونيو 2023).
هل يطمح الرئيس في ولاية ثالثة؟
يقول الأكاديمي السنغالي "عبد الرحمن كان" إن خوف الرئيس "سال" من "سونكو" ينبع من تبني الثاني خطاب تجديدي في السياسة يثير ملفات ساخنة في اقتصاد الدولة وخططها، وهي أمور مهددة للرئيس وأنصاره (صحيفة الشرق الأوسط: 17 إبريل 2023). ويعتقد المراقبون أن الرئيس "ماكي" يحاول القضاء على المعارضة التي تسبق انتخابات 2024، وأنه قد يعدل الدستور من أجل تأهيله لولاية ثالثة، كما حدث مؤخرًا في غينيا وساحل العاج (BBC: 7 March 2021). ولكن هذا الاعتقاد قد يضع البلاد كلها في حالة مواجهة، سياسية وربما تتطور إلى صدامات وعنف.
في لقاء أجرته صحيفة L'express الفرنسية مع الرئيس السنغالي، قال إن من حقه الترشح لولاية ثالثة، وبرر ذلك بأنه أجرى استفتاء 2016 لتقليص فترات الرئاسة من سبعة أعوام إلى خمسة، وأن هذا التعديل يلغي بشكل فعلي ولايته الأولى، ويسمح له بتولي فترة جديدة دستورية. لكنه على الرغم من ذلك لم يصرح بوضوح عن رغبته بترشيح نفسه (L'express: 23 Mars 2023).
وهذه ليست المرة الأولى التي يلمح فيها بإمكانية ترشحه، فقد قال في شهر يناير الماضي "إذا أعلنت أني لن أكون مرشحا، فإن أعضاء الحكومة سيتكاسلون في عملهم، وكل واحد منهم سيحاول أن يبحث لنفسه عن موقع. أما إذا أعلنت عن نية ترشحي، فإن جدلا ساخنا سوف ينجم عن ذلك" (صحيفة إيلاف: 15 مايو 2023). وهنا يحاول الإيحاء بأنه محتار في أمر ترشحه، فلم يعلن عزمه الترشح، لكنه يرفض الادعاء بأن ترشحه غير دستوري.
ومع اقتراب موعد الانتخابات تسعى السلطات إلى النظر في إمكانية ترشح "سال" بعد أن كان خارج الحسابات، استنادا إلى تصريحاته. ويرى "عبد الرحمن كان" أن النزاع الدستوري بين السلطة والمعارضة أدى إلى استغلال الدولة ملفات قضايا بعض المعارضين لتقليل فرصهم (صحيفة الشرق الأوسط: 17 إبريل 2023).
خاتمة
يمكننا إرجاع سبب تفاقم الاحتجاجات بهذا الشكل في السنغال إلى التوترات الاقتصادية والاجتماعية المتنامية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، مما أثار إحباط الناس من سياسات الحكومة المثيرة للجدل، وأملهم في دم جديد ربما يستطيع إنقاذ البلاد من أزمتها، وما لبثوا أن وجدوا في شخص "سونكو" هذا الأمل. لكن الاحتجاجات لم تؤد إلا لوفاة العديد من الأشخاص، وأضرت بقطاعات الاقتصاد المحلي، مما يثير هموما بشأن استقرار السنغال.
إن الديمقراطية في السنغال ما زالت تعمل، لكن الفجوة بين السلطة والمعارضة لم تبد أبدا بهذا الاتساع من قبل، واتضح ذلك بظهور قوة الشارع المناهضة للسلطة بديلا عن الأحزاب التقليدية، لكنها امتزجت للأسف بين طموحات المعارضة والحراك الفوضوي، وبين هذا وذاك احترقت أوراق الرئيس واختلت رهاناته.
ويبدو أن الإعلان المحتمل عن ولاية ثالثة لماكي، قد يؤدي إلى انتفاضة شعبية وأعمال عنف مدمرة، وسوف يصبح نظام الدولة الديمقراطي على وشك الانهيار، فتعامل الرئيس مع الاحتجاجات السابقة، يضع الديمقراطية السنغالية أمام خطر داهم.
وأخيرا.. يبقى "سال" أمام تحد كبير، خلال الفترة المقبلة، في إقناع الشعب السنغالي بشرعية فترته الرئاسية الثالثة، خاصة وأنه ناهض في السابق "عبد الله واد"، حين أراد الترشح لولاية ثالثة، وقدم إصلاحات دستورية عام 2016 للحد من فوضى الولاية الثالثة، فهل سيجد المخرج الدستوري الذي يمكنه من الترشح في انتخابات عام 2024 بأمان؟